مع الفنون الجديدة استعاد العالم أبعاده الثلاثة |
ظپط§ط±ظˆظ‚ ظٹظˆط³ظپ المقاله تحت باب فنون عالمية يظن البعض أن فنون ما بعد الحداثة السائدة اليوم بطريقة تشبه الهوس، خرجت فجأة من مكان ما يقع خارج التاريخ. هذا الظن يصدر عن شعور بالخيبة ممتزج بالرجاء. وهو شعور لا يخفي أصحابه رغبتهم في أن تنتهي سنوات الكابوس سريعا ليعود بعدها الرسم والنحت إلى سابق عهدهما، فنَّين يصنعان ذائقة الناس الجماليين ومزاجهم بأسلوب مثالي مغال في ترفعه. غير أن الحقائق التاريخية تقول إن فنون الفيديو والتصوير والتجهيز والانشاء والاداء الجسدي والمفاهيم وسواها من الفنون الجديدة، هي بالنسبة الى مسيرة التحولات الفنية في عصرنا أشبه بالجنيات اللواتي كنّ نائمات، ثم استيقظن. وما يحدث اليوم تجسيد لحيوية الفن وهو يسعى الى اللحاق بجوهره المتغير. ما الذي تبقّى من الحداثة؟
يحق لريتشارد سيرا أن يقول: النحت لا يزال ممكنا. معرضه في "القصر الكبير" بباريس، قبل سنوات قليلة، كلّف الملايين من الأورو بسبب التأمين والنقل البحري والبري والتنظيم والحراسة. في المقابل، فإن سي تومبلي سيقول مطمئنا: الرسم هو الآخر لا يزال ممكنا. كبرى القاعات الفنية واشهر المتاحف في العالم تتنافس في ما بينها لاستقبال معارض هذا الرسام الذي لا يزال يجد متعة كبيرة في التماهي مع الطبيعة الحية. هل هذان الفنانان هما الاستثناء الضيق واللامع في حقبتنا التي تشهد انحسارا منذ حوالى عقدين من الزمن لعروض النحت والرسم؟ سيرا وتومبلي هما في الحقيقة من بقايا تيار الحداثة الفنية الذي اخترق القرن العشرين طولا وعرضا. حرصهما على نقاء النوع الفني، عميق ومتماسك بقوة. مقوّمات العمل النحتي تظهر كلها بوضوح في أعمال سيرا، فيما تفصح لوحات تومبلي عن عناصر الرسم كلها، وهذا ما لم يخلص له فنان يضارع الإثنين اهمية هو الالماني انسيلم كيفر، الذي استطاع ان ينسلّ بخفة من قالب الفنان الحداثوي ليكون فنّه أشبه بالجسر الذي يقود إلى مناطق فنية لا يزال نزاع المفاهيم فيها مستعرا ومربكاً. بالنسبة الى الاجيال الجديدة من الفنانين، والتي تكاد تعيش قطيعة مبرمجة وصارمة مع فنون القرن العشرين، فإن الحلول الجمالية التي يقترحها فنّا سيرا وتومبلي (وحتى كيفر في معظم الأحيان) انما هي تنبعث من مكان لا ينتمي إلى الواقع الراهن. مكان وهمي تنعش ذكراه فكرة يعتبرها الكثيرون مضللة: الجمال. كان الجمال بالنسبة الى تيارات الحداثة بمختلف نزعاتها المتشظية قضية مركزية وملحة، فيما لا أحد اليوم يولي مفهوم الجمال أهمية تذكر. لقد تبدلت أشياء كثيرة، لا في طريقة النظر إلى العمل الفني فحسب بل وأيضا في طبيعة العمل الفني نفسه. مزاج خفي قلب الطاولة ومحا كل أثر لما تصورناه قوتاً خالداً. ذلك المزاج لم يفرضه الفنانون وحدهم، بل تبنّته مؤسسات كبرى كالمتاحف ومزادات الفن وصالات العرض ودور النشر والبنوك وسواها من حلقات المال الثقافي الداعمة. كان الدادائيون قد دعوا أوائل القرن العشرين في واحد من اعظم انفجارات الحداثة، إلى تدمير المتحف، فكرةً ومبنىً يضم بين ارجائه روائع الفن. كانت تلك الدعوة جوهرية في الفكر الدادائي. المفارقة أن الفن الجديد ورث أشياء كثيرة من ذلك التيار العبثي، مستثنيا دعوته تلك. ذلك لأن المتاحف وهي المعنية بالغضب الدادائي، قد تعلّمت الدرس التاريخي جيدا، فصارت اليوم بمثابة حاضنة لتيارات فنية أقل ما يقال عنها إنها تدبر مكائدها خارج التاريخ. حدثٌ ما دُبِّر في الخفاء جعل من بعض المتاحف حاضنة للفن الجديد.
شغب "فلوكسس" كان جوزف كوست في العشرين من عمره عام 1965 حين عرض كرسيّه الذي قُدِّر له أن يدخل المعاجم الفنية باعتباره اختراعاً غير مسبوق: كرسيّ بثلاث حالات (الكرسي نفسه، صورته، ونص معلوماتي مكتوب عنه). في السنة نفسها كانت حركة "فلوكسس" (كلمة لاتينية معناها يجري) قد بدأت حراكها المشاغب. شغب لم يخطئ طريقه إلى الفن على الرغم من انكاره كل مواد الفن المتاحة يومذاك، وتقنياته واساليبه ومضامينه وأفكاره. أتباع تلك الحركة، وكان يوزف بويز واحدا منهم، مدّوا أيديهم إلى كل شيء باستثناء تلك الأشياء التي تذكّر بالفن كما نعرفه وكما كرّسه التاريخ. كانت اختراعاتهم صادمة للذوق العام الذي تبيّن له أنه صار يقف عند لحظة قطيعة تؤسس لما بعدها، نافيةً كل ما قبلها. والآن ما الذي فعله فنّانو تلك الحركة؟ كان لديهم الحصاد الدادائي جاهزا، وفي الأخص ما انطوت عليه تجارب مارسيل دوشان من جرأة في استعمال المواد الجاهزة، وفي الوقت نفسه لجأوا الى استعمال التقنيات الجديدة وفي مقدمتها تقنية الفيديو. من هذا المزيج، استخرج الفنانون يومذاك مفهوما جديدا للفن هو أكثر سعة وأقل تجهما، شاملاً يحرر الجمال من حساسية نقدية ثابتة ليطلقه في فضاءات تعددت عناوينها: فن المفهوم، فن الحدث، فن الارض، افلام الفيديو، فن المواد الجاهزة، فن الاداء الجسدي، فن الضوء، فن التركيب والانشاء والتجهيز،...الخ. هكذا فتحت "فلوكسس" الباب على مصراعيه أمام كل فكرة يكون في إمكانها أن تكون فناً. في تلك المرحلة التاريخية، أي في ستينات القرن العشرين، لم تكن تيارات الحداثة الفنية قد استنفدت جميع أسباب وجودها، وهذا ما جعل تمرد "فلوكسس" محصورا في أعضائها الرسميين. غير أن ما فعله أولئك الفنانون ظل كامنا في انتظار اللحظة المناسبة للانبعاث مرة أخرى، وإن لم يحقق انتشارا شعبيا في ذلك الحين. وكما أرى، فإن استمرار الالماني بويز في اختلافه المتمرد قد حفظ لتلك الحركة توقد نارها. قدّم بويز عروضا مذهلة في فن الاداء الجسدي في غير مدينة عالمية، مدعومة بأشيائه الجاهزة وتركيباته غير المتوقعة وألواحه السوداء التي كتب عليها دروسه في الفن. حتى وفاته عام 1986 ظل بويز عنوانا للفن المضاد. وهو ما يجعلنا على ثقة من أن شيئا من بويز موجود في تجارب جميع الفنانين الذين أتوا من بعده ليكونوا سادة التحول الذي صنع في ما بعد هوية عصرنا الفنية. وكما يبدو، فإن بويز مشى مسافة القطيعة كلها، هو الذي حرث الأرض ومهّدها لكل فكرة اختلاف. ولكن على الرغم من أهمية بويز، فلا بد من ذكر فنانين كان لهم أعظم التأثير في التحول الكبير الذي شهده الفن في عصرنا: هنري فلينت، جورج ماكنوس، الآن كابرو وهو مخترع فن الحدث، وولف فوستل الذي عرض شاشات كثيرة على جسد سيارة، فيتو اكونجي وهو يتلو القصائد نائما أمام الكاميرا، جورج برشت، جون كيج، ال هانسن، لاري ميلر، يوكو اونو، زوجة جون لينون، عضو فرقة الخنافس الشهيرة. وصية بويز يمكننا القول إن ثمانيات القرن الماضي وقد شهدت غيابا ملحوظا لأساتذة الحداثة الفنية (بويز وهو الأب الروحي لما بعد الحداثة غاب هو الآخر في منتصف ذلك العقد)، كانت الحاضنة التي أمدّت تجارب الفنانين الجدد بأسباب الحياة. وصية بويز كانت واضحة حين ألقى محاضرته الفنية الأخيرة على أرنب ميت. يمكننا أن نفهم أن القطيعة كانت كاملة. في نيويورك كان أندي وارهول يرعى صبيانا، مأخوذا بسوقيتهم الفاجرة، وبقدرتهم على الابتهال الروحي بلغة مبتذلة. لقد وجد وارهول في أولئك الفتيان تجسيدا لحماسته القديمة للجميل المبتذل. كان وارهول على معرفة شخصية وثيقة ببويز، حتى أنه رسمه غير مرة. وكما أرى الآن، فإن جزءاً عظيما من التحول الذي شهده الفن في عصرنا انما يرجع إلى ذلك المختبر الوهمي الذي امتزجت فيه رؤى الإثنين بكل ما في تلك الرؤى من تناقض. بويز الذي كره أميركا، ودخل إليها من غير أن يراها، ووراهول الذي صنع من رموز حساسية الاستهلاك الاميركي ما يتشبه بالايقونات الدينية. لم تتأخر المتاحف ولا صالات العرض في مدن الفن الكبرى كثيرا عن تبني تيارات الفن الجديد. شيءٌ ما لا يزال غامضا قد حدث لكي تنتهي المصائر إلى نقطة اللاعودة. من المؤكد أن جائزة تورنر لعبت دورا كبيرا في رعاية النزعات الفنية الجديدة وتكريسها. ويعتبر سرير تريسي امين ذروة ذلك التبنّي. ابنة المهاجر التركي من شمال قبرص، البريطانية المولد (عام 1963) جلبت سريرها إلى المتحف معبّأً بوقائع الليلة الفائتة، وخطفت به جائزة تورنر لعام 1999. لقد صُدم الكثيرون بما جرى. حدّثني أحدهم عن الواقي الذكري المستعمل الذي تركته تريسي إلى جانب سريرها، الى جانب المناديل الورقية المستعملة. في الوقت نفسه، كان داميان هيرست قد عرض خزانات الأدوية في محاولة منه لمناقشة فكرة الموت. كان كيث هارنغ ميتا في ذلك الوقت. أحد مدللي وارهول، تمكن منه الموت صغيرا بعدما أصبح نوعا من ماريلين مونرو. انطوني غورملي من جهته، كان منهمكا في اختراع أشكال لكائناته الصغيرة التي عرض آلافا منها في مشهد يذكّر بالمسيرات الكبرى في التاريخ. كائنات يضيق بها المشهد، غير أنها تعبّر عن ضمير جمعي صار هو الآخر يضيق بغيابه. ليست فرنشيسكا وودمان ومن بعدها خليفتها سندي شيرمان بعيدتين عن ذلك الضيق الوجودي. صورهما تشفّ عن ذلك الكائن العدمي الذي انتهى لدى وودمان منتحرا، فيما انتهى لدى شيرمان مهرجا. جيف كونز هو المهرج الحقيقي. يزور كونز محال الانتيك ويشتري العاديات من هناك ليعرضها باعتبارها تحفا فنية. فعلت كيكي سميث (1954) المحاولة نفسها، لكن بأسلوب حفظ للنحت شيئا من كرامته. في مكان آخر، كان سحر عروض اليوغوسلافية مارينا ابراموفيتش يفتح الباب على عالم الجسد بكل خفاياه المتعوية. وكانت كارين فانلي قد غطّت جسدها بالحليب لتذكّر بمهاراتها الروحية. أما الهندي من أم عراقية، أنيش كابور، فقد أغرق مساحات العرض بألوان توابله قبل أن تتاح له الفرصة لإنشاء مرآتين هما الكبريان في التاريخ، كل واحدة منهما كلفت عشرة ملايين دولار. عالم رقمي فن الفيديو هو غير تقنيته الرقمية. فإذا كانت تلك التقنية لم تُعرَف إلا بداية التسعينات من القرن العشرين، فإن الفن نفسه كان قد عُرف منذ خمسين سنة تماما. مع وولف فوستل العضو البارز في حركة "فلوكسس"، عرف العالم واحداً من أول العروض الفنية من خلال شاشة التلفزيون. غير أن المؤرخين يجمعون على أن الأب الحقيقي لفن الفيديو هو الكوري - الاميركي نام جون بايك (1932 - 2006) وهو الآخر كان عضوا في "فلوكسس" وصديقا مقرّبا لجون كيج. الإثنان جمعهما الشغف بالموسيقى، وهو السبب الذي حدا ببايك منتصف الستينات إلى اطلاق فن جديد، أشرطة الفيديو مادته التقنية. شهد عام 1971 بداية مغامرة طريفة من نوعها في هذا المجال. إذ عمد التلفزيون الالماني (الغربي يومها) إلى تكليف عدد من الفنانين التشكيليين المعروفين بتمردهم على الانواع الفنية السائدة، إنجاز أفلام قصيرة على أشرطة الفيديو. كان يوزف بويز واحدا من أولئك الفنانين. انتهت تلك المغامرة إلى الفشل الذريع. إذ أن تلك الأفلام لم تُعرض على شاشة التلفزيون إلا مرة واحدة، حيث قابلها الجمهور بالاستهجان والسخرية ولم يستوعب قيمتها الفكرية. لقد حالفني الحظ في رؤية جميع تلك الأفلام عام 2005 حين عُرضت في أحد متاحف باريس (متحف خاص بالسمعي والبصري). كانت تلك الأفلام تمثل لحظة قطيعة مزدوجة: فهي من جهة لا تمت بصلة إلى عالم الدراما أو السينما، ومن جهة أخرى فإنها تستعمل تقنية الفنين ذاتها في الصناعة والعرض. في طبيعة الحال، كان جمهور السبعينات ينتظر شيئا له علاقة بالدراما، ومن هنا جاءت صدمته. يوم رأيت تلك الأفلام، كان قد مضى على انتاجها أكثر من ثلاثة عقود من الزمن، غير أن معظمها كان لا يزال يحتفظ بقوته التعبيرية على الرغم من الضعف التقني، قياسا لما انتهت إليه التقنيات الرقمية في زماننا. الآن، وبعدما أغرقتنا الثورة الرقمية بأجيال من ابتكاراتها الحاسمة، صار انجاز أفلام الفيديو ميسّرا لكل من يشاء. هذه الكثرة جعلت الحكم النقدي أشد صعوبة مما كان عليه في الأمس. الأمر نفسه يمكن تطبيقه على فن الفوتوغراف، حيث وجد الكثير من الرسامين والنحاتين في الكاميرا بنوعيها، الثابتة والمتحركة، بديلا من الممارسة التقليدية في التعبير عن أفكارهم اليومية. وكما أرى، فإن طغيان فكرة اليومي في الفكر الفني المعاصر كان هو الدافع الرئيسي الذي يقف وراء انتقال أولئك الرسامين والنحاتين (جون بلدساري على سبيل المثال) الى التصوير ليكونوا منافسين أشداء لمصورين محترفين من نوع سندي شيرمان أو نان غولدين مثلا. لقد اكتشف الفنانون أن فن التصوير، بعكس ما يشاع عنه من أحكام شائعة، لا يجمّد الزمن، بل يذهب باللحظة إلى فضاء المطلق. يحرر الزمن من حركته التقليدية وتقسيماته المقيدة. لذلك صار العالم أكثر سعة بفضل هذا الفن. فمن خلاله نعيش حيوات كثيرة ما كان في إمكاننا أن نحلم بها من قبل. ولأن انجاز فيلم أو التقاط صورة هو أمر متاح لكل فرد، ويكاد يكون مستحيلا بالنسبة الى الرسم أو النحت، فقد صار فرز ما هو فني عن سواه فعلاً نقديا في غاية الصعوبة، وهذا ما يجعل الكثير من الأحكام مرتبطة بمزاج فكري يظل عصيا على التفسير الميسر. مصائر متعددة مع الفنون الجديدة، وهي التي صارت تُجمَع تحت راية "تيار ما بعد الحداثة"، أصبح العالم كما قلت أكثر سعة، بل يمكننا القول بثقة إن العالم استعاد هيئته الأصلية: كيانا بثلاثة أبعاد أو أكثر. وهذا ما يبدو ناجزا في فن التجهيز والانشاء بقوة لافتة ومؤثرة في الفنون الأخرى. قد يقال إن النحت من قبل حقق شيئا من هذه القبيل، غير أن الطابع الوصفي الذي يتميز به فن النحت بحثا عن جماليات مصممة سلفا، وقف عائقا بين النحات والقدرة على اقتحام دائرة مشكلات معقدة كتلك التي يواجهها إنسان عصرنا الغارق في دوامة سعيه الاستهلاكي المتشعب. يتيح فن التجهيز للفنان حرية أن يكون صانع مصائر لا تحتكم إلى تقنية في عينها ولا تتقيد بخيال مادة دون سواها. صار كل شيء ممكنا إلى درجة العدم والتخلي. وهي الفوضى التي نظر إليها مؤرخ مهم هو هربرت ريد بعينين حذرتين قبل اكثر من أربعين سنة. ما لم يفهمه ريد في الأمس، صار اليوم واقع حال. فالتجهيز (الانشاء) هو في حقيقته فن متعدد بطريقة لا يمكن السيطرة عليها من أجل التعرف اليها على الأقل. على سبيل المثال، دوريس سالسيدو ومارك والكنر وجانيت أخلمان هم فنّانو تجهيز، ولكن لا شيء يجمع بينهم. سالسيدو رسمت شقّاً على الارض بطول مئات الأمتار، توهّم الكثيرون أنهم أمام انكسار أرضي، اما والكنر فهو ذلك الفنان الذي حصد جائزة تورنر بسبب عمل هو في حقيقته مجموعة اللافتات التي حملها متظاهرون بريطانيون ضد غزو العراق. أخلمان من جهتها تطلق شبكاتها المصنوعة من الأسلاك والحبال في الفضاء. عناصر كثيرة تجمع بين الثلاثة غير أنها ليست من نوع تلك العناصر التي تجمع رساماً برسام آخر، أو نحاتاً بزميله. وعلى الرغم مما يمكن أن يلحق بفن التجهيز من كلام فائض، القليل منه يصل إلى الهدف، فإن هذا الفن هو في واقع حاله التجريبي خلاصة لامتزاج فنون عديدة، بعضها بالبعض الآخر: فن الارض، فن الحدث، الاداء الجسدي وفن المفاهيم. هذا المزيج هو الذي يهب فناناً من نوع الان كابرو (ولد عام 1927) دورا طليعيا رائدا في تيار ما بعد الحداثة لا ينافسه عليه يوزف بويز الذي يعدّ الأب الروحي المباشر لكل النزعات الجديدة في الفن. هناك دائما كما قلت سلفاً، شيء من بويز في تجارب جميع الفنانين الجدد التي تشكل اليوم معيارا للفن في عصرنا. لو اقتربنا من خزانات داميان هيرست (1952) المكتظة بالأدوية، فلا شيء غير عادي يمكنه أن يستفز ذائقتنا الجمالية ويوجهها أو ينحرف بها، غير أن بيان هيرست الذي يتعلق بالموت هو ما يجعلنا نشعر بكابوسية المصير الذي ينبعث من تلك الخزانات ممتزجا بالأدوية. حينذاك فقط يمكننا أن نتخيل أمراضنا المؤجلة. لعبة شبيهة بذلك الدرس الذي ألقاه بويز على أرنب ميت. ألم يكن ذلك الأرنب الميت الذي اصغى إلى درس في الفن سوى صورة لمتلقٍّ سيظل مؤجلا؟ يكتفي بعض الفنانين بالنص المكتوب: كلمات متناثرة أو جمل ناقصة وأخرى تعني نقيضها أو تلعب على المفارقة. وفي كل الحالات فإن النص، مستعاراً أم مؤلفاً، لن يكون مقصودا لذاته. إنه السبيل الذي يؤدي إلى فكرة، تقع أحيانا خارجه. فكرة قد لا نقبض عليها غير أن كلماتها تتسلل إلى أعماقنا جارحة كالمسامير. سرير منى حاطوم الذي لا يصلح للنوم، هو نوع من الخديعة البصرية التي تعبّر عن مصائرنا في كل لحظة خيبة. ضد اللغة ينشر كريستيان بولتانسكي الثياب على حبال متجاورة. مشهد متكرر نراه على سطوح المنازل وفي ساحاتها الخلفية. غير أن المرأة التي نشرت تلك الثياب، وهي الأخت والزوجة والأم، لن تكون موجودة أبداً. آنا منديتا، زوجة كارل أندريا، الكوبية التي انتحرت، تنام عارية على بطنها فيما العشب يتسلق ظهرها. الايطالية فانيسا بيكروفت تطلق فتياتها العاريات في القاعة المغلقة لتصطادهنّ فرادى وجماعات بكاميرتها. جانين انتوني تطلي شعرها بالأصباغ وتبدأ بالرسم على الأرض مستعملةً رأسها فرشاة. مارينا ابراموفيتش، يوم كان هناك بلد اسمه يوغوسلافيا، تجلس على تلٍّ من العظام البشرية، جسدها العاري ملطّخاً بالدم فيما يسيل الحليب على جسد كارين فانلي. سلوك صريح ومباشر يصيبنا بالعدوى. لن نكون بسببه معنيين بالجمال باعتباره سلعة. شيء من انسانيتنا نراه وهو يتهدم. يشقى ويختفي. شيء يلوح في الريح مثل ثياب بولتانسكي التي نسيت على الحبال. ماذا عن صاحبتها؟ نختنق بالسؤال. ما المصير الذي ينتظر جسد آنا منديتا نائمةً تحت العشب، وهي التي ذهبت إلى الموت بإرادتها بعد سنوات؟ كل ذلك الركام من العظام الذي تجلس عليه مارينا ابراموفيتش كان يوماً ما ينعم بالحياة. ألا نفكر في أن نندسّ بين تلك العظام لنكون كما نحن فعلاً؟ نقيم في صورنا الشخصية. نتسلى في النظر إلى تلك الصور كما لو أننا نسعى إلى بعث الحياة في أجساد آخرين لم نتعرف اليهم إلا في تلك الصور. بوق أنيش كابور العملاق في "تايت غاليري" يذكّرنا بأن هناك صيحة ستوقظنا يوماً ما من منامنا. كما لو أن الفن يلعب دور الدين في عصرنا، كما لو أن الفنانين، وهم المفجوعون بسلبيتنا، قرروا أن يكونوا وسيطا بيننا وبين الملائكة التي تتحدث بلغة رقمية. هل عدنا إلى الترجمة؟ نعم. أقرّ بأن هناك عجزاً تعبيرياً عظيماً سببه شيوع اللغة السائلة. اللغة التي لا تقول شيئا في عينه. لغة السياسيين والاعلام والنشرات الدعائية الخاطفة. تلك اللغة الرمزية التي اختصرت العالم في مجموعة من الحفر والمضايق والفقاعات المتناحرة. إزاء اضطراب تلك اللغة وقلقها، فإن كل محاولة للوصف هي في حقيقتها تجسيد لخيانة سيكون الجمال ضحيتها الأولى. أقصد الجمال باعتباره مفهوما وليس مجرد حمولة عاطفية. لا يزال هناك من يتاجر بالحساسية والذائقة الجمالية. لا يزال هناك من يدّعي الرأفة بالحواس. ولكن الخراب الذي عم كوكبنا قلل من فرص النجاة. شيءٌ ما يشبه النهاية صار يرافق كل سلوك بشري. إزاء هذا الواقع، فإن دعابات الدادائيين لن تكون نافعة. يصرّ أوبالكا على الاستمرار في كتابة الأرقام على سطوح لوحاته. لقد وجد هذا الرسام في الارقام ضالته. وحدها الأرقام في إمكانها أن تعينه على مكابدة العيش. أسراره كلها تكمن في ذلك الجب الرياضي العميق. لقد اتسعت اللغة وضاق العالم. كان متحف اللوفر يوماً ما، الكون الخيالي كله. الآن يمكن اعتباره ذرّة منسية في كون ليس له أرض واحدة. ثياب بولتانسكي تظل محلقة في الهواء لتذكّرنا بجرحنا اللغوي. لم تعد هناك فرصة ممكنة واحدة لتجميل الحياة من طريق الفن. فمثلما استعادة الحياة من طريق الفن الجديد هيئتُها ثلاثية البعد، فإن الفن استطاع أن يستعيد من طريق الخراب كرامته: الصرخة التي اطلقها كائن مونخ الوحيد |