... ارسل الى صديق  ... نسخة للطباعه ...اضف الى المفضله Bookmark and Share

 

مقالات

 

 

 

 
 
   
هيمت المسافر بين المدن كركوك جنته والعالم مختبره

فاروق يوسف

تاريخ النشر       20/07/2014 06:00 AM





سعادة هيمت لا تزال في الزهور البرية التي تنبت في قرى كركوك

لم يكن يخطر في بال هيمت زيارته المؤقتة إلى اليابان فكانت الخطوة الأولى في طريق منفى سيكون له بمثابة وطن أبدي. كان الرسام العراقي يحتفل بعيد ميلاده الثلاثين وسط جمع قليل من أصدقائه الشعراء والرسامين حين أبلغته شركة الخطوط الجوية التي حجز من خلالها تذكرة عودته إلى بغداد أن هناك طائرة أخيرة ستتجه إلى المدينة المحاصرة دوليا، بعدها لن يجد رحلة تعود به إلى وطنه. حدث ذلك في النصف الثاني من عام 1990 وكان المجتمع الدولي قد بدأ في فرض حصار على العراق سيستمر ثلاث عشرة سنة.

بين اليابان والوطن

وجد هيمت نفسه واقفا بين خيارين: إما أن يقطع زيارته اليابانية التي هي حلم حياته لينضم إلى الملايين المحاصرة في وطنه أو أن ينتظر مشردا، مستسلما للمجهول الذي كان يتوق إلى ملاقاته في واحدة من مدن العالم. ولأنه اختبر العيش في العوالم الضيقة فقد فضل الخيار الثاني، متحملا مسؤولية أن يلج العالم وحيدا، خالي الوفاض إلا من موهبة في الرسم كان قد راهن عليها منذ طفولته. وإذا ما كانت الأحداث التي عصفت بوطنه قد أربكت حلمه الياباني وألقت على زيارته ظلا من الحسرة والمرارة، فإن ذهابه المباشر إلى عمّان قد جدد شعوره بالأمل. لقد احتضنته مؤسسة عبدالحميد شومان يومها وقدمته في معرض مشترك مع سالم الدباغ وكريم رسن.

شظف باريس وجمالها

ولأن هيمت، وقد قُدر له أن يرى في وحدته نوعا من كماله الشخصي، أدرك أن بقاءه في عمّان سيدخله في مناخ جماعي، كان الفن العراقي مادة تسويقه، بعد أن صار الفنانون العراقيون يتوافدون على عمّان، بحثا عن منافذ للعرض، بعد أن سدت أمامهم الطرق.



كانت منحة من مدينة الفنون في باريس بمثابة طوق نجاة ألقي إليه وهو يعيش فوضى أفكاره التي لم تكن تغادر محيط الرسم باعتباره خلاصا شخصيا. لقد غيرت اليابان طريقة نظره إلى الرسم فصار يقتفي أثرا ما لم يظهر بعد من نزعته الشخصية المتمردة التي كان حريصا على كبتها من أجل أن يكون وفيا لالتزاماته العائلية. ما من رسام إلا ويحلم في باريس، غير أن حلم باريس كان بالنسبة إلى هيمت فرصة للانعتاق من شروط حياته السابقة كلها.

لذلك كان مستعدا لمواجهة حياة الشظف التي ستفرضها باريس عليه، وهو الذي ذهب إليها من غير أن يكون قد خطط لذلك من قبل. كان هيمت ولا يزال رساما شرقيا، يطرب للإيقاع ويملؤه مشهد الزهور المرسومة خفة تحلق به عاليا. عام 1992 حل هيمت ضيفا مفلسا في مدينة الفنون بباريس لتبدأ سنوات زهده المثالية. فهل قدر له أن يستعيد سنوات صباه؟ كان يلقي بخطواته الضائعة بين أزقة الحي اللاتيني وخياله يحوم فوق أزقة كركوك، حيث ولد وعاش سنوات طفولته وصباه وشبابه هناك. ولأنه كان قد قرر أن يمضي في رهانه الباريسي قدما فقد كان عليه أن يجد حلا لحنينه إلى حياة صار يعتبر نجاته منها بمثابة بداية لسيرة الرسام الذي حلم دائما في أن يكونه.

بين المعلم ومريده

كانت الرسائل المتبادلة بينه وبين معلمه الروحي الرسام العراقي الرائد شاكر حسن آل سعيد أشبه بطقوس تطهرية من آثام خيّل للرسام المغترب أنه كان قد ارتكبها في حياته السابقة. كانت رسائل آل سعيد تحثه على المقاومة، وكان آل سعيد نفسه قد فشل في خمسينات القرن الماضي في المزاوجة بين وحي باريس الذي استضعفه باعتباره ضيفا يشبه الكثيرين من زوار المدينة وبين حنينه إلى بغداد التي غادرها رساما مكرسا، عضوا في الجماعة الأهم في تاريخ الفن التشكيلي العراقي، وهي جماعة بغداد للفن الحديث.



لقد وجد المعلم آل سعيد في مريده هيمت النموذج المضاد الذي سينتصر من خلاله على ضعفه. كان آل سعيد بالنسبة إلى هيمت واحدا من (تمائم العزلة) وهو عنوان الكتاب الذي كتبته يوم كنتُ مقيما في الدوحة ونشر عام 2003. وقد يبدو نوعا من المفارقة التاريخية الفريدة من نوعها أن لقائي بهيمت قد حدث متزامنا مع لقائه بآل سعيد. كان هيمت يومها قد أقام معرضه الشخصي الأول في بغداد وحدث ذلك عام 1982. كان هيمت قادما من جبهات القتال، جنديا يُحتفى به باعتباره رساما عصاميا، لم تتح له حياته الصعبة فرصة تعلم الرسم مدرسيا. كان ابن الحياة التي تُعلّم الرسم درسا فريدا من نوعه من جهة تعرفه على الجمال الخفي. منذ عرضه الأول أسر هيمت جميع المهتمين بالفنون، وكنا آل سعيد وأنا قطبي معادلته الشخصية. وهو ما ظهر واضحا في صلة لم تنقطع. رغم وفاة آل سعيد عام 2004 لا يزال هيمت يخاطب معلمه آل سعيد كما لو أنه لا يزال حيا. وهو ما يفعله مع صديقه الشاعر الياباني كوتارو جينازومي الذي ذهب إليه ليودعه وهو يُحتضر.

كتب الشعر بعيون أصدقائه

كانت كتب الشعر واحدة من أهم منجزاته الباريسية، من خلالها استطاع أن يلج عالما لطالما حلم في التعرف على تفاصيل جناته. كان هناك ميشيل بوتور وأندريه فيلتر وأدونيس وشعراء آخرون كان يحفر رؤاهم الشعرية بأناقة جمالية على الورق، مستحضرا قدرته على أن يلهم يديه سبل التسلل إلى علم الغيب.



كان الشعر بالنسبة إليه مناسبة للقبض على ما لا يتسنى للرسم رؤيته. لقد أعانه الشعراء على النظر في ليل غربته الذي تبين له أنه سيطول، وقد يلتهم حياته كلها. أكان يفكر في “عشتار” الآلهة البابلية لينهي طوق عزلته ولو شعريا؟

عشتار وهي آلهته

لقد قضى هيمت عشر سنوات من أجل أن يرى مشروعه النور. قصائد من شعراء عرب وأجانب مختلفين في طريقتهم في النظر إلى آلهة العشق والجمال البابلية. سيكون ذلك الاختلاف تعبيرا حقيقيا عن المزاج البابلي. كانت رسومه هي الأخرى تعبر عن نزعة الضنى الجمالية التي ورثها عن معلمه آل سعيد. نرسم لكي نكشف عن جزء من عالم الغيب الذي يحيط بنا من كل جانب.

أقام هيمت معرضه (عشتار) في البحرين، غير أن ذلك العرض لم يكن في مستوى طموحه. شيء منه لا يزال عالقا بالمخطوطة. كان المركز الثقافي في بغداد قد أقام معرضا لهيمت منتصف تسعينات القرن الماضي في المدرسة المستنصرية وهي موقع تاريخي في بغداد كانت معروضاته أشبه بالمخطوطات القديمة.

لقد خص هيمت حريق شارع المتنبي وهو شارع الكتب في بغداد بمعرض، سيكون بمثابة خطوته التي سيكون عليه أن يلقيها وهو يسعى إلى إقامة مقاربة خيالية بين ما صار يفعله في الرسم وبين ما كان معلمه آل سعيد يفعله في الرسم.

هيمت يقيم الآن مطمئنا في مرسم باريسي هو جزء من بناية مترفة مخصصة لإقامة الفنانين. ولكن سعادته الحقيقة لا تزال هناك. في الزهور البرية التي تنبت في قرى كركوك والتي جعلته يحلم في الذهاب إلى اليابان. أكان عليه أن يستذكر زهورا كان قد غادرها قبل حوالي ربع قرن ليكون صادقا مع نفسه؟

كانت كركوك جنة اللغات التي لا يتذكر منها هيمت سوى شقائه الشخصي. غير أنه اليوم يستعيدها مثل الفراشة التي تحلق حول النار التي ستحرقها.

عن العرب



مقالات اخرى لــ  فاروق يوسف

 

copyright © 2008  Al ZaQurA.com, Inc. All rights reserved 

 

 

Developed by
ENANA.COM