... ارسل الى صديق  ... نسخة للطباعه ...اضف الى المفضله Bookmark and Share

 

مقالات

 

 

 

 
 
   
"آرت أمستردام راي" درسٌ في اللافنّ

فاروق يوسف

تاريخ النشر       20/07/2014 06:00 AM



   

أعرف أن الأخبار التي يتضمنها هذا المقال ستثلج صدور خبيرات الفن العربي ممّن تمّ استيرادهن من أوروبا وآسيا، ومعهن حاشيتهن من ذوات الأصول العربية اللواتي قررن أن يقشرن الأبجدية العربية ويكتفين بالفواصل التائهة من نوع "يعني" و"شكرا"، التي تسقط متعثرة بين "ثانك يو" و"مرسي"، كما لو أن العربية صارت جزءاً من صفحة طوتها ضيافة الفنون المعاصرة التي صارت ملزمة.

فن تسويق النفايات
أوقعني رسّام صديق من غير أن يبيّت شراً، في فخّ "آرت أمستردام راي"، بعدما كنت مطمئناً إلى مناعتي أمام غواية صبيانية اسمها أسواق الفنّ. "آرت امستردام راي" هي سوق الفن السنوية التي تشارك فيها صالات العرض الهولندية والعالمية، "المتطرفة في اختلافها عن السائد"، مثلما يصفها نقّادها المأجورون، كما هم بعض الصحافيين والنقاد العرب الذين صارت أسواقنا تستأجر خدماتهم الاعلامية.
الخبر الرئيسي الذي ستسرّ له الصبايا، وهنّ خبيراتنا في الفن، يتعلق في أن نظرة سريعة وخاطفة إلى محتويات تلك السوق لا بد أن تؤدي إلى الحكم بتدني المستوى الفني إلى درجة يشعر معها المرء بجسامة الخطر الذي صار يهدد حواسه إن استمر في النظر إلى المعروضات باعتبارها أعمالاً فنية مختلفة في أدائها وتأثيرها وجماليات صمتها.
لقد حرص المشرفون على السوق، أن يصلوا إلى أقصى قاع ممكنة من الانحطاط لكي يثبتوا نظريتهم المريبة التي يتوّجها شعار محكم في جبريته: "هذا هو الفن".
في هذه السوق التي يدأب المشرفون على اقامتها منذ عام 1994 ليست هناك سوى فكرة واحدة عن الفن، هي الفكرة عينها التي صارت تفرضها أسواق شبيهة تقام سنوياً في دبي وبال وأبوظبي وباريس وبيروت. فكرة قوامها الأساس، الترويج للفن الرديء، غير الصالح للعرض في الأماكن التي تمتلك تاريخاً رفيعاً في عرض الفنون التشكيلية. الفن الذي ينفّذه أناس لو تقدموا لاختبا
ر القبول في معاهد وكليات الفن، لما اجتازوه ولما كُتِب لهم أن يكونوا فنانين في مستقبل أيامهم. لذلك يمكنني القول إن مَن تبنّتهم تلك السوق لا ينتمون إلى سلّم النوع الفني، فلا يمكن تصنيفهم على أساس وقوفهم على درجة ما من درجات ذلك السلّم. ما من شيء في أعمالهم التي عُرضت بطريقة يغلب عليها التباهي الفجّ، يمكنه أن يؤهلهم لنيل صفة "فنان".
لقد رأيت أعمالاً قبيحة، لا لأنها تصور القبح من حيث كونه واقعة يومية، بل لأنها لم تكن قادرة على تجاوز لحظات قبحها الذاتي المتأتي من ضعف صارخ في الأداء والحرفة والدربة والخيال. لم يفلت عمل واحد من وصفة، صارت بمثابة كلمة السر التي يتداولها أفراد عبر العالم قرروا أن ينضمّوا إلى نوادٍ سرية، لم تعد معنية بإخفاء رغبتها الصارخة في هدم الجمال، باعتباره آخر ملاذات الأرواح الهائمة، النافرة من عالم الاستهلاك الساذج والتبسيطي والمنعّم بتقنيات خوائه وخداعه.
لم ينجُ عملٌ واحد من تلك الأعمال التي رأيتها في "آرت أمسترددام راي" من تلك الوصفة، وهذا ما يؤكد أن كل شيء كان مصمماً ولم يقع بالمصادفة. هناك اتفاق على أن تكون تلك السوق فضاء معادياً للفن، كما عرفته البشرية، عبر العصور. كان هناك مسرح مفتوح لكل أصناف اللافنّ، في بلد لن تكون فيه روائع الفن بعيدة عن متناول المتلقين. سيكون الأمر محيِّراً حين نتذكر أن هولندا وهبت العالم رامبرنت وفرمير وكارل أبل وفنسنت فان غوغ ووليم دي كونينغ وبيت موندريان. من عصر الباروك حتى عصر الحداثة، كانت هولندا حاضرة بعصف فنانيها المغيّرين. فكيف يمكن الهولندي ممّن لم تضلله لعبة أصحاب الصالات أن يقبل بـ"فن" لا يمكن سوى أن يشكل نفاية، إن تمت مقارنته بما يمكن أن يراه المرء بيسر في المتحف الوطني أو متحف "ستيدلك" وكلاهما لا يبعد إلا كيلومترات قليلة عن موقع السوق؟






الفاسدون مفسدون
كان هناك جناح للحقائب النسائية. كانت هناك أجنحة عديدة للأكسسورات النسائية. أيضاً كان هناك غير جناح للصحون والكؤوس وسواها من الأدوات المطبخية. هذا كلّه، من وجهة نظر إدارة السوق، هو "فن". علينا أن نقبل بمزاج السوق الفنية الذي تبدّل، من دون أن نطّلع على ذلك التبدل بسبب عدم متابعتنا وجهلنا. ما صار يقوله المنظّمون هو الحقيقة المطلقة التي صار علينا عدم الاعتراض عليها.
يتحقق المرء في كل لحظة مشي بين المعروضات، أنه قد وقع في قبضة مسوّقي بضائع، مزدوجي الهوية. فهم خدم وضيعون حين يتعلق الأمر بالأثرياء الذين كانت تعجّ بهم السوق، أما حين يكتشفون أن مَن وطئت قدماه الأمتار القليلة المخصصة لعروضهم هو مجرد شخص فضولي ألقت به الأقدار بالمصا
دفة في مكان صار يبحث فيه عن نفحة أمل بصرية، فإنهم يظهرون بوجوههم الصفيقة.
لقد رأيت لوحة استنسخ رسّامها لوحة للرسام الفرنسي الشهير كوربيه، لكن بطريقة رديئة، حيث حاول أن يكتفي بما تضمنه المشهد ا
لذي رسمه كوربيه من بذاءة تصويرية. حين أشرت إليها في محاولة مني لإثارة اهتمام صديقي الرسّام، اقتربت منا المشرفة على الجناح بوجه باسم وصارت تعرض علينا إمكان أن يُخفض سعر اللوحة إن اقتنينا عملاً آخر. غير أن تلك المرأة صُدمت حين أفصحنا لها عن شخصيتنا: ناقد فنّ ورسّام. كان شعورها بالإحباط الذي ظهر على وجهها دافعاً لهربنا. لقد حضرنا خطأ. كان علينا أن نعتذر. هنا تذكرت ما كتبه أحد نقّاد الفن العرب وهو يتغنى بالمشهد المعرفي الذي فاجأه في "آرت دبي".
فإذا كانت سوق الفن في امستردام فضاء طارداً لكل من يرغب في تأمل أحوال الفن من غير أن يكون راغباً في تحويل انحرافه المعلن عن حقيقة الفن، فما الذي يمكن توقعه من سوق تحتضنها دبي، المدينة التي أقيمت على اساس مفهوم محض تجاري ؟
أعتقد أن الفاسدين من ذوي الرؤى الشريرة المناوئة للفنّ، كانوا يفسدون بطريقة خلاّقة، تسعى إلى أن تضع في خدمتهم أنواعاً من المفسَدين الذين يخصصون للفساد جزءاً من خيالهم النقدي. في "آرت أمستردام راي" كان هناك نقّاد فاسدون، كما هي الحال في "آرت دبي" أو "آرت بيروت". نقّاد يكتبون ما يراه أصحاب القاعات صالحاً للنشر. الكلام الذي يزيّف الحقيقة ولا يمتحنها تاريخياً.

من أجل راحة الجميلات
كانت مشاهد الحقائب والأكسسوارات النسائية والصحون والمعالق والأقداح باعتبارها أعمالاً فنية، مؤلماً بالنسبة إلى سذاجتي النقدية. بعدها صرت أفكر في طريقة مختلفة. لربما كان أصحاب القاعات التي عُرضت فيها تلك المشاهد هم الممولون الرئيسيون للسوق. ربما لن تكون السوق قائمة لولا مساهمتهم. كان خيال المجتمع المخملي يحيط بي من كل جانب. مقارنةً بمَن رأيت من الحضور، كنت وصديقي الرسّام الفقيرَين الوحيدَين اللذين دخلا عنوةً إلى مكان لن يرحب بهما. هنا كان عليّ أن استوعب لِمَ كانت تذكرة الدخول إلى السوق باهظة الثمن. كانت تلك التذكرة عقوبة لمَن لم يكن مدعوّاً، وهو الغريب الذي اختار طائعاً أن يكون محلّ سوء فهم. ولكن هل يمكن فهم العلاقة بين الرثاثة الفنية ومجتمع يبدو حريصاً على مخمليته؟ كيف تستوي تلك العلاقة ومَن المستفيد منها؟ لم أكن مراقباً بريئاً. كان الحاضرون ينصتون إلى شروح الجميلات الأنيقات ممّن كنّ يشرفن على الأجنحة بإجلال وخضوع وتباه. لقد تدرّبن على ترغيب الزبائن ببضاعتهن النادرة. كان ذلك حدثاً كئيباً بالنسبة إليَّ. لقد اكتشفتُ أنني كنت محاطا بالأغبياء من كل جهة، وهم الأطراف الذين تتوجه إليهم أسواق الفن المعاصرة. حينها صرت أفكر في ناقد الفن المغربي الذي تغنّى في وقت سابق بالأذكياء الذين كانوا يحيطونه من كل جانب في سوق الفن بدبي.
بخيانته للحقيقة، بتخاذله أمام سلطة المال، كان عليه أن يكتفي بالقول إنه كان ضيفاً لسوق تجارية، كان الفن عنوانها. كان عليه أن ينأى بنفسه عن مؤامرة يعرف أن الفن الأصيل هو ضحيتها. لكن خياله المسروق عبث بأريحيته، فصار يردّ على منتقدي تلك السوق بما يريح فتياته الأجنبيات









       
    

                                     

عن مجله النهار       .



مقالات اخرى لــ  فاروق يوسف

 

copyright © 2008  Al ZaQurA.com, Inc. All rights reserved 

 

 

Developed by
ENANA.COM