... ارسل الى صديق  ... نسخة للطباعه ...اضف الى المفضله Bookmark and Share

 

نقد

 

 

 

 
 
   
قاعة رفيا في دمشق تقول شيئا مختلفا

فاروق يوسف

تاريخ النشر       22/10/2010 06:00 AM




الفن يكسب رهانه بتمرد الفكرة النضرة

أفتح القوس ( حواسي نائمة) في ذلك الفجر. حدث خطأ في حجز السفر مما جعلني أشعر بالاحباط. تركتني الطائرة في مطار ستوكهولم. اتصلت بـ ( رفيا) في دمشق. أخبرتها أني يائس من امكانية حضوري وعليها أن تبحث عن بديل لمحاضرتي. فزعت رفيا فتراجعتُ وقررتُ أن أبقي القوس مفتوحا. سأصل دمشق إذاً فجر اليوم التالي. سأدخل متعبا من الباب التي خرج منها صقر قريش، عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك متعبا هو الآخر. هي ذي الشام، يعلق بي فجرها كما لو كنت أطأ أرضا لا يابسة بعدها. بعينين نصف مفتوحتين تعرفت على وجه موليم العروسي الذي كان قد رافقني في الطائرة نفسها من اسطنبول من غير أن الاحظه. موليم يهوى جارتي الحلوة. ' سلم عليها'. مَن يصل أولا إلى الشام. الفجر أم أنا؟ في الطريق الى الشام كنت أفكر في الفجر الذي لا يزال مختبئا. فجر المدينة يصنعها. لي شغف استثنائي بأوقات الفجر في كل مدينة أزورها. أما حين أصل المدينة فجرا فان ذلك الحدث ينعم علي بالبركة ويبشرني بإقامة هانئة. يحمر الافق. تنبعث الألوان من بين قامات الأشجار المعتمة. بعد ثلاث ساعات من النوم كنت في قاعة استقبال فندق ( امية).
 
 وجدت محمد بن حمودة وندى شبوط وموليم وعادل السيوي جالسين في قاعة الاستقبال. بأذنين نصف مغلقتين انصتُّ الى ما قالته سيدة جلست بألفة معنا. في باب المتحف الوطني سألت تلك السيدة عن اسمها فابتسمت مستغربة وقالت: ' لقد أخبرتك. أنا رفيا' هي ذي إذاً السيدة التي يحمل الغاليري اسمها. لا تزال حواسي نائمة. عرفت أني سألقي محاضرتي بعد دقائق بحواس نائمة. القوس لا يزال مفتوحا. الحديث مع الجمهور يخلق مزاجا محلقا. كان الارتجال بالنسبة إليّ مناسبة للتماهي مع الفوضى: فوضى الوقائع الفنية وفوضى ما يرافق تلك الوقائع من أفكار. كل شيء قابل لأن يقود إلى كل شيء آخر. ( الفن العربي في عالم متغير) هو عنوان الندوة. اما عنوان محاضرتي فقد كان ( الفن العربي: نظرة نقدية خاصة). كنت أحاول أن أهرب من القياسات الجاهزة وأن أجعل التاريخ يتأملني.
2
الياس زيات كان حاضرا بقوة في الندوة. حدث هو أشبه بالتزكية القادمة من مكان طاهر. فالرجل قام بدوره التنويري على أكمل وجه، إن من خلال رسومه أو من خلال اشاعة الحس النقدي الجمالي. تأملت رفعته، كبره، قدرته على أن يتجدد من داخل معبده، فشعرت بالغيرة. مبدع يرفض أن يلتحق بما فعله. لم يأسره مجد الماضي، بل هو يتقدمنا في اتجاه الاختلاف. يوسف عبدلكي شارك بنبل في نقد الصورة المكتملة. أزاح قدرا من الالتباس عن الحلقات التي تربط الأجيال الفنية السورية، بعضها بالبعض الآخر. الرسام الذي كان يستعد لاقامة معرض شخصي لرسومه في حمص صار بعد عودته إلى بلده نوعا من الرمز لكفاح مستقل. بعد محاضرتي تقدمت مني سيدة أنيقة وقالت لي وهي تحييني: ' أنا زوجة عبد الرحمن منيف، كنا نذكرك كثيرا حين كان جبرا ابراهيم جبرا يزورنا'، وأهدتني كتاب منيف عن الرسام السوري مروان. هنا استيقظت حواسي، لكن في اتجاه مختلف تماماً. فجبرا لا يزال معلمي ولا يزال ذكر اسمه يهز موقع عاطفة خفية في أعماقي. تذكرته صباحا في الطريق إلى المتحف حين ضربتني هبة ياسمين.
 
 هذه هي المرة الأولى في حياتي التي أشعر فيها ان عطرا يغمرني من كل الجهات. ' ما هذا؟' ينبغي للمرء أن يكون مستعدا للمفاجآت السعيدة في عالم تصنعه الأخبار الكئيبة. لذلك لم أقرأ الصحف ولم أنظر إلى شاشة التلفزيون طوال عشرة أيام قضيتها خارج الوقت تماما. ولأني لم أر دمشق من قبل فقد كانت حكايات المنفيين هي زادي المعرفي الوحيد، غير أنني كنت أعرف أنه زاد ناقص. فالمنفى كما خبرته شخصيا هو ماكنة خرساء لصنع الحكايات. في تلك الحكايات يتقاطع الشخصي بالعام، المجرب بالمتداول، الوهمي بالواقعي. هناك شيء من الحقيقة في كل ما يجري تأويله. ولكن الزمن وهو يتغير يقول شيئا آخر، شيئا عن شعب لا يزال جذره الحضاري ينبض. وهو ما شعرت به وأنا أجلس محاضرا أمام حشد من المختصين وطلاب الفن وهواة الاستماع والمحاججة. ولم أخف دهشتي. لقد سقطت كل المقارنات. أن تمتلىء القاعة بالجمهور من أجل الاستماع إلى محاضرة عن الفن تُلقى صباحا ( أثناء الدوام الرسمي) فذلك حدث استثنائي، وهو ما جعلني أشعر أن دمشق مدينة مختلفة عن سواها من المدن العربية.
3

قبل سنة ونصف سنة افتتحت قاعة رفيا لتدخل إلى سوق الفن في سورية مفهوما جديدا، مادته الفكر الذي لا يستثني المفاهيم الفنية المكرسة من نقده كما هناك العروض الفنية التي تسعى الى استقطاب التجارب الفنية العربية المتمردة التي هي موضع استفهام بالنسبة للثقافة الفنية السائدة. نايلة سابا كركور ورفيا قضماني ملص انهمكتا في تشييد عناصر مشروع خيالي وسط فوضى سوق واقعية، كان المال ولا يزال ركيزتها الاساسية. مغامرة أن تقول ' لا' لتاريخ من القناعات الثقافية الراسخة. وكما أفهم فقد كان الرهان منصبا على الهواء النقي. من داخل ما سمي بالمحترف السوري ومن خارجه على حد سواء. لقد ضاعت البوصلة بالنسبة إلى الكثيرين ممن أغرتهم مطارق سماسرة المزادات غير أن ما رأيته في غاليري رفيا جعلني أثق أن هناك دائما بوصلة أخرى. بوصلة ترى في الفن الحقيقي مدخل صدق. هناك رغبة عميقة في التجدد من خلال الاختلاف. وهو ما رأيته في أعمال ياسر صافي وفادي اليازجي وعلي قاف وناصر حسين ونسرين بخاري وايمان الحاصباني. فن لا يذكر بالمحترف السوري التقليدي، وإذا ما كنا قد قلنا في الندوة كلاما آخر عن المعاصرة وعن الفنون الجديدة فقد فوجئت أن تجارب العديد من الفنانات والفنانين السوريين يقول الشيء نفسه. وكما أرى فإن رهان غاليري رفيا انما يذهب إلى المناطق المحررة من الخيال. هناك فن تصنعه ارادة متحررة من قوانين السوق. سوف أنسى القوس مفتوحا وأتذكر لينا الشيخ ورندا العظم وهما تديران الغاليري بخبرة من يسابق الزمن بأناقة لافتة.
 
 في أحد أزقة دمشق القديمة أقامت مجموعة ( الفن الآن) معرضها الدائم في واحد من البيوت المتهالكة. في ذلك البيت يعثر المرء على سبب مضاف لكل كلمة معترضة تقال في وجه المؤسسة الفنية القائمة. تجارب قادمة من عصر التجهيز والإنشاء والتصوير والايقاع الجسدي والمفاهيم. جيل آخر ينهض من تحت خراب الفكرة. هناك جمال متأن لا يقوى على حمل الفكرة كلها. هناك براعة لا تمت إلى التقنية الفنية التقليدية بصلة. ما تحدث عادل السيوي عنه في الندوة وجدته متحققا في ذلك البيت الدمشقي العتيق. ينجز الفنانون ما نتخيله. أنا على يقين من لو أن الياس الزيات كان معي يومها لأظهر حماسته لما فعله الشباب. لا يهمه مصير ايقوناته بقدر ما سيرى معبده الحقيقي وقد امتلأ بنور جديد. ذلك النور مشى بي. وهبني قدمين خفيفتين أتنقل بهما بين بابي توما وشرقي ممتلئا بشغف من يود الامتزاج بآخر اليابسة. دمشق التي لا تزال تقيم تحت طبقات من الياسمين. هناك في حارة ( قنوات) يشعر المرء بأن الزمن لا معنى له. الآن أغلق القوس.


مقالات اخرى لــ  فاروق يوسف

 

copyright © 2008  Al ZaQurA.com, Inc. All rights reserved 

 

 

Developed by
ENANA.COM