حين رأيت معرض نان غولدن في بيت الثقافة وسط ستوكهولم خيِّل إليّ أن المصورة الأميركية صارت عرّابة لهامش اجتماعي هو من السعة بحيث يظن المرء أن ذلك العالم الذي كان دائما مجاورا لعالمنا صار يمتزج بعالمنا بقوة اليقين الذي يصدر عنه ليخلخل عناصر نظرتنا البورجوازية الثابتة إلى أحوالنا. كل صورة من صورها هي سؤال يتعلق بالهوية المزدوجة التي يتخذ منها أفراد في ذاتهم وسيلة لاعلان اختلافهم. كائنات إنسية فضلت العيش مع الجن في بيئة افتراضية تحيط بها الهذيانات من كل جانب. أفراد وجماعات يحاولون النبش في مفهوم القدر وصولا إلى تربته النضرة. هل هم ضحايا عزلاتهم أم نحن الضحايا حين يطاردنا عزوفهم عن مشاركتنا تفاهات حياتنا اليومية؟ في صورها أقوال كثيرة عن لحظة عازفة عن أن تكون جزءاً من الزمن. لحظة فالتة لا تصلح للقياس سوى في تعبيرها عن الضنى الشخصي. المتمردون ينتهكون المسافة لا لكي يصلوا إلينا بل لكي يكشفوا لنا عن أسرار حياة ممكنة حرمنا منها. صور غولدن ليست وثائق بل ايقونات تنبعث من جهة سرية لا يمكن اكتشافها إلا من طريق الحدس.
1
"لا تصف، بل تعيش"، يمكننا قول ذلك عن نان غولدن (ولدت عام 1953 في واشنطن وتعيش حاليا بين باريس ونيويورك). غولدن بعين الخبرة التي لا ينقصها خيال المسافر، تصوّر عالما يحتك به جسدها كلما تحركت ولو حركة يسيرة. ذلك لأنها قررت منذ سنوات أن تكون جزءاً من موضوعها الاستثنائي، حتى أنها تلجأ أحيانا إلى تصوير نفسها كما لو أنها أصيبت بعدوى ذلك الموضوع. سكان عالمها هم أولئك البشر الذين عكفوا على إنسانيتهم في ملاذات بعيدة عن أعين البشر العاديين. بشر يعيشون في سياق خيار وجودي مختلف، لكن حياتهم لا تزال ممكنة مثل خيط رفيع لم ينقطع بعد. هناك شهقة عميقة آسرة يشعرها المرء لم تنطلق بعد هي أشبه بسؤال يتعلق بالمصير. الا يزال في إمكاننا أن نعلي من شأن هوية أخرى غير كل هذه الهويات المتاحة التي تقبض على الأرض من أطرافها؟ هوية لا تنتمي إلى تعريف مسبق وهي لا تكتسب تلقائيا بل يتم اختراعها بعد جهد كبير وتضحيات جسام. يشكل العزوف عن مشاركة المجتمع بداهاته في العيش، العمود الفقري الذي تستند إليه تلك الهوية المفارقة. لقد اقتحمت نان غولدن بخفة ضيف مرحَّب به، عالم مدمني المخدرات والكحول الذين هم بشر مثلنا، غير أنهم ليسوا مثلنا تماما. في تلك المسافة الملتبسة بين الرفض المستاء والقبول المشفق، فتحت غولدن عينيها على نظرة أخوة تخطت حذر المجتمع وخوفه وريبته، فكان لها أن ترى براحة ضمير وحب ما لم يره أكثر الاختصاصيين موهبة في الالفة. هناك ما لا نعرفه من أساليب العيش تتخطى فكرتنا عن الحياة، هي الأساليب التي يحيطنا بها الهذيان علما. ولكن من يهذي أكثر من الآخر، نحن أم هم؟ ليست لدى غولدن مشكلة من هذا النوع. فلإنها ترى ما لم نره وتسمع ما لم نسمعه، فإنها تعرف ما نقف عاجزين أمامه. هناك تمارين روحية تعلمتها غولدن، هي التي أعانتها على استيعاب درس لين وطازج من دروس الحياة المنفية إلى الهامش.
2
لا بأس هنا باستعارة عنوان كتاب للشاعر المكسيكي اوكتافيو باث "متاهة العزلة" ليكون صفة لعالم غولدن. فذلك العالم لا يكفّ عن التشكل. كل صفحة تطوى منه تقود إلى صفحة لا تزال مفتوحة. حرصت غولدن على المشي ببطء وهدوء، لا من أجل أن لا يزعج وجودها سكان ذلك العالم فحسب بل وأيضا من أجل أن تلتقط نظرتها كل حركة مهما تكن خفية. بمرور الزمن اصبحت صورها خفيضة الصوت وتأملية أكثر. صارت تلك الصور تستعرض البشر كما لو أنهم مناظر طبيعية ساكنة تتجلى قوتها من خلال وقفات تشي باختلافها واستقلالها. حكاية يرويها كائن لا يفصح عن جنسه. في تلك المتاهة ترعى غولدن حياة ليست مسلية كما يظنها البعض. هناك شقاء عظيم يشقّ تلك المتاهة بعصفه ليهبنا صورا متلاحقة عن حياة يقاس حضورها بقوة غيابه. لدى أولئك البشر ما يقولونه ولكنه القول الذي لا يتوارى وراء زخرف القيم البورجوازية التي نقيم في حاضنتها. متمردو عالمنا الأرضي هم أيضا نوع من الضحايا. علينا أن نفكر كثيرا في ما يمكن أن نكون عليه لو كنا أيضا من سكان ذلك المغطس. ليست هناك غرابة. كيف يمكننا أن نقيس المسافة التي تفصل بيننا وبينهم؟ صور غولدن تعمق شعورنا بحواسنا، تثني على الحدس السري الذي يرعى تلك الحواس. هي في الحقيقة تلقي بنا مباشرة في المزيج الذي يتخلى عن صورتنا كما نظن من أجل صورتنا كما نتخيل. غولدن لا تحذرنا من الذهاب إلى مصير مختلف، تراه من خلال خبرتها مصيرا محتملا لنا، بل تضع أمام عيوننا كونا تعتقد أننا سنكون جزءاً منه في كل لحظة. لا تراهن غولدن على الوقاية كثيرا، ذلك لأنها في صورها لا تستعرض حالات مرضية بقدر ما ترافق متمردين إلى حتوفهم.
3
في سن الخامسة عشرة أظهرت نان غولدن ولعا خارقا بالتصوير. كانت تصوّر الناس في الأسواق. في ثمانينات القرن الماضي استطاعت أن تكون واحدة من أهم مصوّري عصرنا. كان معرضها، "الاغنية"، نوعا من الانكشاف على حياة لا يعيشها المرء إلا مرة واحدة. 750 صورة هي سلسلة من خيارات تصويرية عبثية كانت بمثابة مشاهد تصنعها موسيقى تقدَّم بشكل عفوي في ناد ليلي. تعرفت غولدن هناك الى أصدقاء من نوع مختلف. كانت تلك اللحظة بالنسبة اليها فتحا. اكتشفت غولدن أن هناك عالما حقيقيا يقيم إلى جوار ذلك العالم الواقعي الذي أتت منه وكانت تظنه العالم الوحيد الممكن. كمن تمكّن منها الصدق في لحظة اشراق هاربة، صارت تصوّر نساء ورجالا وهبوا حيواتهم كلها للعيش إلى الهامش. لم يكن في إمكانها أن تقول كنت هناك. كان لديها ما تقوله من غير أن تنكر أنها لا تزال موجودة في المكان نفسه. حفلات لا تبحث عن أي نوع من الاعتذار لتعترف بالهامش المتمرد الذي تنتمي إليه. وهو هامش يصوغ الادمان والجنس ملامحه. وهو أيضا لا يتوارى ذاتيا، بل لأن المجتمع يرغب في اخفائه. كانت صور نان غولدن بحميميتها صرخة تذكير ولم تكن المصورة تفكر في الندم. لقد اعتادت غولدن أن تكتب يومياتها وهي لا تفكر في نشر يومياتها تلك، غير انها من خلال صورها استطاعت أن تذهب بنا إلى الجوهري من تلك اليوميات. "هي ذي الحياة التي عشتها على الرغم من أنني لم أقع ضحية لها". ما يهمّنا هنا أن يكون الفنان مخلصا أخلاقيا لما يقدّمه. وهو بالضبط ما كانته غولدن. لقد سبرت أعماق عالم استثنائي، ذهبت بعدستها إلى أعماق ذلك العالم بهدوء وخفة، غير أنها لم تلعب دور الباحث المحايد، بل أعلنت من خلال إنتاجها الخلاّق انحيازها النضالي إلى ذلك الهامش المتمرد الذي ننظر إليه بسبب غفلتنا البورجوازية بنصف عين. في صور غولدن تظهر قيم انسانية نفتقدها كثيرا في حياتنا العادية. قيم هي أقرب إلى الاخوة الانسانية كما نحلمها، إلى الحب الخالد كما نتخيله. حتى العري في تلك الصور، يحضر بشفافية عري لا يكترث بزمنه. هو عري لا ينتمي إلى زمن في عينه. تلك الكائنات التي اختارتها غولدن مادة لخيالها الجمالي هي كائنات موجودة بقوة في كل الأزمنة. انكارنا لها لا يعني أنها ليست موجودة.
4
لم تخترع نان غولدن عالما جديدا. كانت مخلصة لعالم اكتشفته وقررت أن تخوض فيه، لا لتخونه في ما بعد بل لتقف بنا عند ينابيع صفائه ورقته وخيلائه وبهائه. لا تسلية بل شقاء. هو الدرس الذي نتعلم منه كيف يكون الإنسان فردا وحيدا في لحظة عري روحي. كائنات فتية التهمتها الحكمة كما تفعل بفلاسفة رأوا في الكلام عبثا وفي الكتابة نوعا من التزوير. الحقائق كلها متاحة. يمكننا تصديق تلك الكذبة. وهو ما يجعلنا أبناء مركز بورجوازي ينظر إلى كل هامش باعتباره نوعا من الخطر. صور نان غولدن تذكّر بذلك الخطر الذي يعيش قريبا منا. أولئك البشر الذين يشبهوننا ولكنهم قرروا في لحظة صدق عميقة أن لا يكونوا أشباهنا البلهاء. حين يرى المرء صور غولدن بعمق يتمنى لو خلع ثيابه وانضم إلى أولئك الأبرياء الحزينين لكي ينسى خطيئته |