... ارسل الى صديق  ... نسخة للطباعه ...اضف الى المفضله Bookmark and Share

 

فنون عالمية

 

 

 

 
 
   
لا نخسر شيئا إذا تخلينا عن وجه لا يشبهنا روني هورن ممسكة بعصا الشعر ترعى خراف أيامنا

فاروق يوسف

تاريخ النشر       11/05/2009 06:00 AM



لا يمكننا أن نقول عنها إنها مصوّرة ثم نسكت. روني هورن التي يحتفي بها متحف "تايت" في لندن هذه الأيام من خلال معرض شامل لأعمالها، هي المصورة الاميركية نفسها، غير أنها في الوقت نفسه الشخص الذي يقف وراء كل ما يتضمنه معرضها الحالي من منحوتات ورسوم وصور وأعمال انشائية وكتب. مثلها مثل كل دعاة الفن الجديد (تيار ما بعد الحداثة)، لم تكتف هورن بصفة فنية واحدة بل ان انتماءها العميق إلى الفن وفق مفهومه المطلق، دفعها إلى الغاء الحدود بين الأنواع الفنية وإلى التعبير عن حياتها بالطريقة التي تكون ممكنة في لحظة الاشراق الخيالي. وهي اللحظة التي تجلب أدواتها ومعاييرها الجمالية معها في تحدٍّ صارم. لم يقف امتناع هورن عن الانضمام إلى جوقة النسويات حاجزا بينها وبين الانتشار العالمي، بل اضاف ذلك الموقف الهادئ نقطة إلى سجلها وهي تسعى إلى البحث عن معنى كامن لهويتها حيث تقف أعمالها في المسافة التي
تفصل بين العاطفة البشرية والطبيعة في صفتها مرآة لعلاقات تعج بمقارباتها الغامضة.

1

عام 1975 ذهبت الشابة النيويوركية ذات العشرين سنة روني هورن إلى ايسلندا، شبه الجزيرة التي لا يفكر أحد في الذهاب سياحةً إليها. الصدمة الجمالية والانسانية التي عاشتها في ريكيفيك (عاصمة ايسلندا)، أنضجت في أعماقها وعيا كانت قد خبرته من قبل وهي تنحت اشخاصا عاكفين على جمالهم الخاص. مزيج من العزلة والمناظر الطبيعة الخارقة في جمالها، صنع مزاجا تنقيبيا في الصورة الانسانية التي صارت تعتبرها بمثابة مرآة. ان التحولات الطفيفة الأشد تفاهة التي تحدث على السطح، يمكنها أن تجرّنا إلى التعرف الى اختلافات جوهرية تحدث في الأعماق بين الجوانب الحساسة من الشخصية الإنسانية والجوانب التي قدِّر لها أن تكون مهيمنة على الوعي. فكرة ملغزة غير أنها في الوقت نفسه يمكن أن تيسّر حالها بنفسها من طريق التماهي سطحيا مع التفكير الانطباعي الذي ساد الرسم الفرنسي منتصف القرن التاسع عشر. هورن لا تفكر في الطريقة نفسها التي جرّت الانطباعيين الى السطحية على الرغم من أنها لا تنكر اهتمامها بالسطح. كان الوجه البشري بالنسبة اليها مرآة وذاكرة ملتبسة. في معرضها "أنت الطقس" الذي أقامته عام 1994 قدّمت 110 صور لوجه امرأة واحدة. كان حدثا مملاً بالفعل، غير أنه انطوى على سلوك فكري ساحر كان ينبئ بعزيمة جمالية صارمة. سجنت هورن ذلك الوجه في تغيراته، هيأت له فضاء تأمليا مفتوحا، أمدّته بأوكسيجين نقي مضاف. سلسلة من الحكايات لا يمكن تعويض بعضها بالبعض الآخر. كل صورة (بورتريه) هي واقعة استثنائية، استجابة جمالية لقدر لا يزال في طور التشكل. ما فعلته مع تلك المرأة المجهولة بالنسبة الينا، كررته مع الممثلة الفرنسية ايزابيل هوبير في واقعة فنية مشهورة. حينذاك استطاعت هورن من طريق الايحاء بالتكرار المضني، أن تنعش اسطورة هوبير بأسباب جديدة للحياة. ولكن لحكايتها مع نهر التايمس ايقاعا مختلفا.

2

المياه الساكنة (نهر التايمس مثالا) كان موضوع معرضها الذي اقامته عام 1999. فكّر نقاد الفن عميقا في المناخ الرمزي الذي سيطر على ذلك المعرض. تريد هورن أن تقول شيئا يخص وجودها الذي تشتبك من خلاله خيالات اناس نائمين في اماكن متفرقة من التاريخ. كان النهر يمر وهي تصوّر. صورها تمثل النهر في ذاته باعتباره فكرة لا يمكنها أن تتكرر مرتين. بعد ذلك المعرض صار النقاد يشبّهون تجربتها الفنية بالنهر: تكرار مخادع، وضوح لا يخفي غموضه، سطح ينتشي بأعماقه الغائرة، ضعف لا يتناسب مع قوة مضمرة. في عملها "سجادة الذهب"، شيء كثير من هذا الكلام كلّه. الرقيقة حد التشبه بالهشيم، لا تتخلى عن تعاليها المهذب. أما بومها الميت فلا يزال منتصبا أشبه بالذكرى. ما يحدث في لحظة ما، لن يتاح له أن يحدث دائما. تعرف هورن أن النهر يحمل من الأرض التي يمر بها الكثير من الأشياء التي تصنع ذاكرته، وتعرف أن الوجوه هي انكسارات الضوء عليها. تربيتها التقليلية (نسبة الى التيار التقليلي في الفن)، أعانتها على حذف الكثير من التفاصيل. لغتها الزاهدة والمتقشفة هي صدى لذلك النوع من التربية الجمالية. رسومها تتبع المكان الذي تحاكيه. هي عالة على ذلك المكان. تقول: "الرسم هو المفتاح لحيوية كل ما أقوم به. فهو الذي يضع العلاقات بين العناصر في مكانها الطبيعي". يشبهها الرسم وهو يستولي على جزء من خيار بصيرتها فينعش من خلال ذلك الخيار جزءاً من ذاكرته. رسومها كلها مستلهمة من المناظر الطبيعية في ايسلندا. يمكننا أن نقول إنها تستعير في تلك الرسوم خلاصاتها الجمالية من خيال الطبيعة الذي لا يعنى بالتفاصيل الصغيرة التي هي جزء من نشيده العام. تهزمنا الطبيعة. جمالها هو نوع من اعترافنا بهزيمتنا.

3

عصا اميلي ديكنسون هي أكثر من عصا وأقل من صولجان. حين انظر إلى عمل روني هورن المستلهم من قصائد الشاعرة الاميركية، أتذكر بصريا عملا شبيها لكارل اندريا. هو الآخر ترك لوحا رقيقا وضيقا، متكئا بخفة على الحائط بالطريقة نفسها التي تركت فيها هورن عملها. ولكن علينا في هذه المرحلة المشوّشة من تاريخ الفن، أن نبحث عن أعذار لا أن نتهم. عمل هورن هو عبارة عن عصا رقيقة من الزجاج كتبت عليها قصائد من ديكنسون (هنا الاختلاف). الايحاء بليغ من خلال الرغبة في إعلان حياة يعيشها الشعر شفافا، متحررا من معانيه، ومستغرقا في غموضه. ايحاء يكسر كل وهم. الشعر في مكان آخر. هذا ما يمكن أن يتبقّى. عصا ديكنسون تصنع مكانا لجنّة متخيلة. جنة هي الأخرى خيار بشري ممكن لكنه يقع خارج حدود المتداول. تقليلية هورن التي هي صدى لتقليلية أندريا، تلخص العناصر كلها في لوح صامت من الزجاج. لا أحد يضرب الهواء بتلك العصا. ذلك اللاأحد، هو ما تحلم به تلك العصا. يقول الشعر كلاماً يذهب مع الريح. ما الذي يبقى إذاً؟ هورن، مثل عدد كبير من فناني اليوم، تلجأ إلى الكلمات. النص ينقذهم في لحظة الابهام. أعتقد أن المطلوب من الشعر شيء أكثر فتنة من التوضيح. لا تطلب هورن من النص الشعري أن يعينها على الوصول إلى متلقٍّ قرر أن يفهم. إنها ترى في العصا غايتها التي تبعث إلهاما بصريا من حولها. هذا يكفي. ديكنسون ليست ذريعة، بل هي ضالّة. الدليل على ذلك ان هورن لم تكرر العمل مع نص لشاعر أو شاعرة أخرى. شيء منها ذهب إلى غيابه لا يزال في إمكان ذلك النص الشعري أن يستحضره. في خضمّ يوميات فنانة أدركت أن الجمال يقيم في عزلته المكتظة بالأسرار، ينبغي لنا المشي في حذر.

4

أن نحب العمل الفني أو لا نحبه، تلك مسألة لم تعد تؤرق أحدا من الفنانين ولا النقاد ولا حتى جمهور الفن. غالبا ما يتراجع الحب من أجل أن تتقدم قيم جمالية أخرى. أكتب ذلك وأنا أدرك أن ليس من اليسير على الجمهور العادي ان يتعاطف مع اعمال روني هورن من النظرة الاولى. فهي أعمال لا تثرثر. تقول الأقل بما يشبه الهمس بأكثر العناصر تواضعا وبساطة. غير أن الأسئلة التي يتركها أثر تلك الأعمال وراءه، هي ما يجب أن نرعاه بقدر كبير من الصبر والأناة. أسئلة تتعلق بهويتنا، حيث الإقامة بين ذاكرة إنسانية تتشظى وطبيعة هي في حقيقتها مرآة لحيوية الأبدية السادرة في عنفوانها. أين نقف؟ ومن نمثل؟ وماذا؟ وكيف نخرج من ذلك المطهر؟ أسئلة القيامة كلها تعلق بأبصارنا ونحن نشاهد ما أنتجته هذه الفنانة عبر مسيرتها الفنية التي هي حصيلة حراكها المستمر بين جنة ايسلندا وجهنم نيويورك. هناك ما يحدث دائما. ما يجعلنا أبناء لصيرورتنا. حكمة متواضعة غير أننا نتناساها في خضمّ انهماكنا في تلميع لحظات حضورنا النادرة. هورن تهبنا من خلال أعمالها فرصة للاحتفاء بالنسيان كونه نوعا من فعل التذكر. نحن موجودون في كل منعطف يدرّ علينا بشيء من معناه. ليس لحياتنا معنى إلا من خلال تلك التجليات التي تظهر في المرآة. سيكون في إمكاننا أن نقول بعد أن نرى أعمال هورن: إذا كانت لنا كل تلك الوجوه، لِمَ التباهي بوجه واحد قد لا يشبهنا؟



مقالات اخرى لــ  فاروق يوسف

 

copyright © 2008  Al ZaQurA.com, Inc. All rights reserved 

 

 

Developed by
ENANA.COM