... ارسل الى صديق  ... نسخة للطباعه ...اضف الى المفضله Bookmark and Share

 

فنون عالمية

 

 

 

 
 
   
رساموا المنطقة الحرة محاولة لتاسيس مقاربة جديدة في توصيف العمل الفني

د. فائز الحمداني

تاريخ النشر       13/05/2008 06:00 AM



عمد الناقد دبليو اتش جونسن في معرض تقديمه للاساليب الفنية الحديثة الى الرجوع لجوهر العملية الابداعية ، فقسم الاعمال الفنية الى ثلاثة اقسام :
 الاول :
خطاب معني بتنظيم الاداء اللوني والخطي في اللوحة وهو جوهر ، خطاب الاسلوب التجريدي ، والثاني معني بالتعبير عن الحالة الشعورية للفنان وهو جوهر الاسلوب التعبيري والاخير يعتمد الخيال في خطابه وهو الاسلوب السريالي وهو بذلك يضع المتلقي امام الثوابت التي انطلق منها كل اسلوب، مبتعدا عن التناول التاريخي ودوره في تطور هذه الاساليب ورغم ان تصنيف الاعمال الفنية على اساس هذه الاسايب والمدارس يساعد في تاطير العديد من الاعمال الفنية التي سادت النصف الاول في القرن العشرين ، فانه في الوقت ذاته لا يغطي جميع الاعمال الفنية المعاصرة ، بسبب التداخل الذي يوظفه الفنانون المعاصرون بين الاساليب الفنية المختلفة ، من هنا يجد النقاد صعوبة في تصنيف اعمال الفنان (هنري روسو او اندرو ويث او جواد سليم على سبيل المثال لا الحصر) تحت عناوين تلك الاسالب ، من هذا المنطلق وبالافادة من مقاربة الناقد دبليو اتش جونسن يمكن تاسيس مقاربة جديدة لوصف الاعمال الفنية ، لا بالاعتماد على تلك الاساليب وانما من خلال حصر العملية الفنية بشكل عام بين طرفين (طريقتين) للاداء الفني كما يرى ادوار سميث الاول يعنى بالاداء الفني لرسامي يمثل الخيال وتشكلاته الفنية جوهر العملية الابداعية في ادائهم ونصطلح على تسميتهم (فنانو مخيلة) اما الاثني بيعنى بالفنانين الذين تمثل تشكلات البيئة المحيطة المادة الرئيسة للعملية الابداعية لديهم فهم (فنانو محاكاة) يقع الفنانون دون استثناء ضمن حدود هذا التصنيف وان اختلفوا في مستوى اقترابهم من احد طرفيه (ينظر الشكل البياني) . تجد الاشارة هنا الى ان هذا التاطير لا يعنى بالمفاضلة في القدرة الابداعية بين الحالين وان انطلاق تسمية تخيل او محاكاة ما هي الا مقاربة تاطيرية .

 
 فالقدرة الابداعية مرهونة بالاداء ضمن منطقة الاشتغال الخاصة بكل فنان متخيلا كان او محاكيا . وكلما اقترب الفنان من وسط الشكل البياني كان من الصعب توصيف الاسلوب او المدرسة التي يتبعها ، هذه المنطقة اطلقت عليها تسمية المنطقة الحرة ينطلق هذا التوصيف من خلال التعامل مع اللوحة عبر ثلاثة عناصر وهي:
 1- عنصر التشخيص figurative element وهو اهم عامل في المحاكاة ويعني كما هو واضح تضمن الوحة اشكالا وهيئات واضحة المعالم لكيان ما (رجل ، شجرة ، بيت.. الخ)
 
 2- عنصر العلاقات element of relationships التي تجمع فيها مكونات اللوحة فكلما كانت العلاقت قربية الاحتمال كانت اللوحة اقرب الى المحاكاة وكلما كانت العلاقات بعيدة الاحتمال كانت اللوحة اقرب الى المنطقة الحرة . يمكن اعتبار لوحة الموناليزا مثالا على ذلك فالخلفية غير المالوفة التي اختارها ليوناردو دافنشي لوجه الموناليزا يجعل هذه اللوحة من لوحات المنطقة الحرة.
 
3- عنصر الترميز symbolism element وهو اهم عناصر المنطقة الحرة ويتمثل بقدرة الفنان على اثارة اوسع استجابة ف وعي المتلقي من خلال تحميل مكونات لوحته بطاقات مجازية .
يمكن اعتبار لوحة المسيح الميت للفنان هانز هولباين الاصغر من الامثلة المتقدمة في هذا المجال كذلك لوحة مرثية للفنان فائق حسن ، التي ارى ان ليس من الدقة وصفها باللوحة الانطباعية وان كان اداؤها يصب في هذا الاسلوب ، لان اللوحة مشحونة بطاقة ايحائية عالية.

 ينبغي الاشارة الى ان هذه العناصر ليست منفصلة بالضرورة، اذ قد يمتلك التشخيص في لوحة ما قدرة عالية على الايحاء من خلال التعامل مع اللون والهيئة والتكوين كما في اعمال الفنان الهولندي فيرميير (1632-1675) كما ان العلاقات البعيدة الاحتمال لا تعني بالضرورة اقتراب اللوحة من المنطقة الحرة ، فهناك الكثير من الاعمال الدينية في الفن القوطي المتاخر او عصر النهضة او الفن المتكلف mannerism مثلا، رغم خلقها لعلاقات مفترضة بعيدة الاحتمال على ارض الواقع فان المباشرة الوعظية في ادائها افقد قدرتها على الايحاء يمكن اعتبار الفنان هنري روسو (1844-1910) مثالا بارزا من امثلة المنطقة الحرة ، اذ تحتشد في لوحاته مفردات الطبيعة مع قدرته على خلق مناخات خيالية تبعده عن كونه فنانا محاكيا فحسب، ان التضخيم الذي يمنحه لمفردات الطبيعة بيعده عن اعتباره رسام مناظر طبيعية landscape painter ومن ثم فهناك تداخل وثيق بين ما هو تخييلي ومحاكي في اعماله ان هذا التاطير لا يشترط اسقاطه على جميع اعمال الفنان بالضرورة فقد يكون الفنان وبحسب تطور التجربة الفنية في البدء محاكيا ومع تطور العملية الابداعية يصبح اداؤه تخييليا ويصح بيكاسو (1881-1972) مثالا على ذلك اذا اخذنا بنظر الاعتبار ان بيكاسو كان يميل الى المحاكاة ( المرحلة الزرقاء) وبتطور التجربة اتخذ اسلوبه الخاص مسارا تخييليا .

 وهي مسيرة يمكن ان يمر بها العديد من الفنانين حيث يقطعوو مسيرة الخط البياني في توجههم من المحاكاة الى التخييل مثل الفنان فائق حسن حين نقارن بين بداياته الانطباعية واواخر اعماله التجريدية يصح تطبيق هذا الاطار على الاعمال الفنية الحديثة (مع بداية القرن العشرين) عموما وان كان هناك من الفنانين عبر العصور الفنية السابقة ممن تجاوزوا المحاكاة التي مثلت الغالبية العظمى من الاعمال الفنية في زمانهم .

 ويصح اعتبار الفنان القوطي المتاخر جيروم بوش (1450-1516) في لوحة (حديقة المتع الارضية) من النماذج الرائدة في هذا السياق. كما يمكن ان نورد فناني الاسلوب المتكلف امثلة على الازاحة التي حدثت في حال المحاكاة التي ادع فيها فنانون النهضة ، اذ يرى بعض النقاد ان التشويه او التطويع الذي مارسه فنانو الاسلوب المتكف من امثال بارماجيانينو و تنتوريتو وال كريكو، يعكس رؤية متوافقة مع شكهم بقدرات الانسان الذي امن به فن عصر النهضة . ان اتفاقنا او اختلافنا حول تفسير النقاد لاداء الاسلوب المتكلف لا يغير من حقيقة كونهم مثلوا حراكا جادا باتجاه منطقة التخييل. ظل الاسلوب المحاكي على مر العقود هو الطابع الغالب على الاداء الفني مرورا بالباروك والركوكو كما هو معروف ، وان مثلت اعمال فيرميير والاعمال المتاخرة للفنان فرانشسكو دي غويا خصوصية رؤيوية في ادائها الفني (لوحة الثامن من اب) ولا يعدم الفن الرومانسي مثالا صارخا في الانزياح الرؤيوي المشار اليه في اعمال الفنان الانكليزي تيرنر (1775-1861) الذي تمثل مناظر البحر لديه تمردا واضحا على الاداء المحاكي لصالح رؤية الفنان تجاه السلوك المنتفض للبحر على الدوام. هذه الرؤية التي تركت اثرا بعيدا في تطور اسلوب الفنان الفرنسي يوجين ديلاكروا (1798-1863) لذا يمكن اعتبار لوحته (الثورة تقود الشعب) من لوحات المنطقة الحرة التي تعتبر قمة في ايحائها وم خلال اداء محاك.
 

 من المعروف ان الانطباعية هي بداية الانزياح الحقيقي باتجاه الرؤية الفنية من خلال توظيف اللون بوصفه عنصر رؤية لا عنصر محاكاة في العمل الفني ومن خلال ذلك التوظيف نجحت اللوحات الانطباعية في ان تكون انعكاسا لمناخ الفنان اكثر من كونها انعكاسا للمفردات التي كان يصورها في لوحته، هذا الانزياح الرؤيوي الذي اخذ يشق طريقه بصراحة اكبر في اعمال غوغان وفان كوخ وسيزان . يمكن اعتبار الاسلوب الرمزي الذي ظهر في اعمال جيمس ابوت وسلر (1834-1903) وادوارد بيرن جونز (1833-1898) واخرون والدادائية والسريالية التي ظهرت بعد الحرب العالمية الاولى من الاساليب الكثر اشتغالا على المنطقة الحرة . وان كانت السريالية التي جمعت مفردات الواقع على ارض اللاوعي او العقل الباطن اكثر تقدما في هذا الاتجاه. لا شك ان الفن التجريدي يثمل الازاحة الاكثر تطرفا باتجاه التخييل والاكثر ابتعادا عن المحاكاة من خلال محاولة ابعاد اللون والخط من وظيفتيهما التمثيلية والتعامل معهما بوصفهما باعثي اشارات خاصة بكيانهما الخاص.
 ان القاء نظرة متاملة على الاداء الفني المعاصر يكشف عن ابتعاد العديدي من الفنانين على ان يكونوا في اقصى طرفي الخط البياني ، رما لرغبة الفنان في التصالح مع المحيط او لايمانه بقدرته على ان يصدم المتلقي بادوات وعيه البصري ذاتها فتجاوزت هذه ااعمال منطقة التعامل مع المالوف البصري بالاسلوب ذاته ، او ربما يعود ذلك الى القناعة القائلة بان التجرد اصبح بوصفها اسلوبا فنيا قد استنفد القدرة على تقديم المزيد ورما يبرر ذلك التخوف الذي شعر به كاندنسكي من تحول الفن التجريدي في اخر الامر الى ن تزييني لا اكثر ، وقد يعود ذلك لايمان البعض بان الرؤية الفنية لا يمكن ان تصل بشكل ناجح ما لم تكتسب شرعية فجودها من قدرتها على محاورة الواقع لتكون اكثر قدرة في التاثير.


لا يمثل ذلك بالطبع انحيازا للمنطقة الوسطى للشكل البياني . من المهم الاشارة هنا الى انه حتى في الاسلوب التجريدةيهناك تنوع في الطيف الادائي من حث الاقتراب في بعض مناطق اللوحة من المحاكاة كما في الاسلوب التجريدي التشخيصي figurative abstractism. ان اعمال المنطقة الحرة هي اعمال ذات اداء تشخيصي عموما ولكن علاقة مكونات اللوحة وما تحمله من طاقة ايحاء عالية يؤشر تدخل الرؤية الخاصة بالفنان في صلب ادائها التشخيصي . لقد شكل فنانو المنطقة الحرة (الذي جمعوا بين المحاكاة والتخييل في اعمالهم)منطقة جذب للعدد من الدراسات والبحوث النقدية وكانت اعمالهم عصية على التبويب النقدي الاكاديمي، وان كانت اساليبهم تقترب من اسلوب دون غيره من امثال الفنان فرناند ليجيه(1881-1955) الذي تقترب اعماله من التكعيبية ..
 
 ان ما يلاحظ على فناني المنطقة الحرة ، ان اساليبهم تبقى محتفظة بخصوصيتها العصية على المحاكاة وذلك لا نهذه المنطقة ، منطقة بكر لكل من يدخلها ، ولا يستطيع ان يؤسس له كيانا فيها من لم يكن متسلحا بالقدرة الاكاديمية مع صفاء الرؤية ، وهو امر قد يتعسر على الكثيرين ، ما ان يؤسس الفنان لوجوده هناك حتى يبدع اعمالا صعبة التقليد لانها منطقة حرجة من الصعب الاخذ منها من دون ان تسقط في ظلها.


مقالات اخرى لــ  د. فائز الحمداني

 

copyright © 2008  Al ZaQurA.com, Inc. All rights reserved 

 

 

Developed by
ENANA.COM