... ارسل الى صديق  ... نسخة للطباعه ...اضف الى المفضله Bookmark and Share

 

فنون عالمية

 

 

 

 
 
   
ثلاثية فان كوخ .. في مرسم يان بيريستروم

فاروق سلوم

تاريخ النشر       26/12/2008 06:00 AM



 

طبيعة دونما حدود ترسم واقعية مبهرة .. وحيوانات مروضه  تملأ المكان  وبحر مطلق ، هي  ثلاثية  تؤثث بيئة مرسم يان بيرستروم

البحيرة وقد رسمت افق القرية  المسترخية بسكونها هناك عند  مفترق طرق فين غوكر ، اليست هي مدينة  النبيذ المعتّق باصديقي  يان .. يسبقني ضاحكا :  والأيمان ايضا 

 ثمة كنيسة كبيرة تطل من النافذة  .. كان قد رسم برجها يوما ..

زيارتي وسط الثلج تلك التي كنا نتداول فكرتها على قدح قهوة ساخن .. غدت رحلة  تسحب معها خطا ابيض للنهار على  نافذة المنزل الصغير .. منزله الأحمر هذا  ، هو المرسم الهارب من اي توقيت في بلاد مولعة بالدقة والتخطيط .. والبرمجة  .. الكلب الوحيد هو علامة الحياة ..  وعلامة الوقت
 

 
.. هنا يستيقظ يان بيرستروم .. ( انا رجل ولدت منذ وقت بعيد -  لايقول يان سنة ولادته -  وأحتاج الى النوم ) مخلوق ليلي هذا الرسام حيواناته الصغيرة  وصديقته تشكل ركنه العائلي  هي والطبيعة الغنية بكل تحوّل مفاجيء والماء المطلق  اثاثه الذي يستخرج منه عدة الرسم ..
 
 وعلى النافذه يهبط طائر اللون عليه كل مساء خائفا ومستوحشا  ( ثمة رسام آخر بذات الأسم يسكن اوست شوبنغ لكنه لايشبه يان بيرستروم هذا بأي شيء ذلك اكثر شبابا وحداثة واقل عزلة  )
*
كانت حيا يان بيريستروم  سلسلة من الصدف والترحال غير المخطط .. مبهور هو بيومه ، يقلع عن عاداته .. ويعاودها .. يحاول ان يقلل استهلاكه للألوان لكن فرشاته تحفر على الكانفاز رليفات مجسمة تأخذ ذخيرته من الألوان .. اللوحة لديه طقس .. وعلاج ..
 
 انه يختزن لطقوسه كل ماتوفره الطبيعة من سحر – انها مصدر رؤيتي يقول .. كما يحاول ان يقلل من سعة علاقاته عبر العالم لكن بريده يزاحمه على اللحاق بأي قرار واستدراكه ..
 

 

قبل ثلاثة اشهر جاءته دعوه ليعرض اعماله في  غاليري انديرا غاندي ، عليه ان يكون  هناك في شباط فبراير 2009.. صارت الفرشاة تفلت من يدي .. لاارى  غير التجريبية طريقا لصناعة عالم احتمله : يقول ..  ويكرر ان طائر اللون يمسك به طوال شيخوخته  ومهما ترددت الكف لتغوي المساحة يتفوق اللون كعدة المغامر الذي لايستقر .. مثل عاشق هذا الشيخ السبعيني .. مثل مغامر يحمّل جسده رهق البحث والتحول .. والليل هو صديقه  الوحيد ،
 
رغم ان صديقته الأثيرة فتاة الجنون كما يسميها لاتفارقه .. لكنه يضع فسحة مفتوحة لصداقاته مع الناس الممتدة  الى الأقاصي.. وصحيح انه يقرأ اشعار اوسه لارسون .. ويهتم بكتابات انكه فريمانسون لكن جوزيف كونراد يشكل مصدر الهام وتذكر هل لأن ابطال كونراد هم شيوخ ورواة يحبون البحر كما يان .. انه يضع رواية قلب الظلام امامه وكأنه يستعيد يوميات شيخوخة مستعاده هناك  .. السويدي قاري نهم يقول ، لكن الأختيار هو المهم .. بعضنا يقرأ طوال العام لتمضية الوقت لكن انا لاوقت لدي .. اقرأ بتكثيف وعناية .. والشعر يشكل الهامي .. كما ان الرسائل القصيرة التي تصله كل يوم هي  علاقة حية مكثفة ورمزيه  بالعالم والناس .. اذ ان عزلته  هناك في كثافتها .. تروي حاجة حقيقية الى الحب ..
*
انتصر يان بيريستروم على المرض .. بالرسم .. الأكليريك .. والزيت هما مفتتحان لفسحة القماش ، انه يتجول طوال الليل بين  حوامل اللوحات الثلاثة التي تعود ان يشتغل عليها .. انه لايستطيع الأستغراق الى النهاية في عمل واحد ..دائما هناك خيارات حرة توحيها فكرة او ملمح او مصادفة .. لايستطيع ان يصير سجين فسحة القماشة  الوحيدة .. كان بيرستروم قد امضى خمس سنوات في التسكع في كل المدن التي حملته اليها الصدفة .. الصدفة وحدها .. الخطى ، فقد كان انهى دراسته في جامعة ستوكهولم عام 1961 واشتغل في بيئات لاتمت للرسم بصلة لكنه كان مستمتعا  الى درجة الملل مع ثقافة الستينات وحركة الهبيز واليسار الجديد وثورة الطلبة  حيث يقرر الفنان الذي في اعماقه مغادرة كل واقع حتمي .. تضع  صديقته قنينة من نبيذ سانت ايميليون .. مقترحة ان اواصل .. الثلج كثيف والعربة يمكن ان تغفو خارج المنزل .. نحن بحاجة  الى الدفء..

يغامر يان بيريستروم في لوحاته .. الوانه الساخنة المتقلبة مثل مزاجه  اثارت  موجه من  اعترض في معرضه الذي اقامه الصيف الفائت في كاترينا هولم .. يخرج الناقد لارش يوهانسون مطولته عن صخب المغامر الشيخ  بيريستروم وكأن هذا الفنان  يعرّض تاريخ الفن التشكيلي السويدي الى  مغامرة غير محسوبة .. يعلق يان قائلا : هذا الناقد ماركسي من حزب اليسار لكنه لن يستطيع الاّ ان يسحبنا الى افكار حزبه التي تريد  ان تغلق كل امكانية حرة هنا ..  الا معامل الطعام .. انا احب هذا الخروج عن القواعد وتلك ميزتي ..

مرسمه الذي يقع على تلك البحيرة لايتسع لخطوه مضافة والاّ  تحولت اللوحات الكثيرة الى فوضى من لوحات مكدسة .. الألوان الباذخة هي التي تسجل يوميات المرسم وهو لايخذل سطوحه وكأنه يضيق بهذا الكم من كتلة الزيت  لديه حتى يريقها على السطح للوصول الى  نتائج  مفاجئه . فنان صعب الأرضاء .. صامت .. وموحي  والطبيعة هي مصدر اقصاء لديه وكأنه يرسلنا في مهمة مجهولة حين يكلفنا بتأمل لوحة . الرسام السويدي لايستطيع ان يغفل الطبيعة ، هذا بعد اجتماعي وبعد وجودي قد يصعب على الآخرين تفهمه .. الطبيعة هي قرين الشخصية السويدية ورفيقتها يعيد اكتشاف ملامحها وسحرها وهويتها وجنونها يوم تغضب .. وبيرستروم لم يضيق بها لكنه لايريد الأفصاح عنها  .. وفي لوحاته الأخيره  تسيطر عليه التجريبية المحضة .. في الفكر والأسلوب وهما عنصران متغيران عنده  .. وكانه يريد ان يغير بريده من اللوحات  التي يهم بأرسالها  الى غاليري انديرا غاندي ليشفي جنون التغيير لديه ..

تجربته التي تقوم على نفي الوجود الواقعي للأشياء .. والمشاهد  تجربة فنان  يرسم وفق يديه  ليذهب الى هناك حاملا عزلته قرب تمثال بوذا ..  ان يان بيريستروم   يغامر بهذا التجاور الغريب بين المعنى والكتلة الصامته .. وبين الفضاء والمعنى الحر ..


مقالات اخرى لــ  فاروق سلوم

 

copyright © 2008  Al ZaQurA.com, Inc. All rights reserved 

 

 

Developed by
ENANA.COM