... ارسل الى صديق  ... نسخة للطباعه ...اضف الى المفضله Bookmark and Share

 

مقالات

 

 

 

 
 
   
المغربي محمد المليحي في رواق «لينيار» في طنجة

فاروق يوسف

تاريخ النشر       04/11/2008 06:00 AM



«يمكنك بيسر أن تميز رسوم محمد المليحي. لا يحتاج الرسام المغربي (ولد في اصيلة عام 1936) إلى توقيع أعماله» ولكن هل يوقع المليحي أعماله حقاً؟ هذا ما فاتني التحقق منه وأنا أسعى إلى تبرئة عينيّ من تشوشها البصري وهما تتلقيان لحظة نظر صافية، صارت تهذب خطواتي وأنا أتنقل بين رسومه في معرضه الأخير في رواق (لينيار) في طنجة. لم اكن في حاجة إلى توقيعه كما توقعت، مع أن المليحي صار آخر، غير ذلك الذي توقعته. فالرسام المكرس، الذي يمكننا الزعم بانه سيد الرسم الحديث في المغرب اختار أن يقدم لنا هذه المرة خلاصة وعي شكلي جديد، هي صنيعة تجربته الحسية في حياة أرادها أن تكون مقرونة بالمغامرة الشخصية. ومثلما كان البحر فضاءه التعبيري فيما مضى فانه يتخذ الآن من الجسد فضاء يتشبه، من جهة سعته ومن جهة ايحائه، بالبحر.
ولهذا فإن سحر رسوم المليحي لا يصدر عن قدرتها على الوصف، بل عن تلك الخلاصات الساحرة التي لا تتودد إلى العين بقدر ما تسعدها بخيالها. هناك ما تود العين المضي في اكتشافه. في التلذذ بمسراته، في ارتكاب المعصية من اجله. غير أن تلك الرسوم تأبى أن تكون وسيطاً. هي في حقيقتها ما هي عليه من تأمل خارق في اقتضابه وزهده وتعاليه وترفعه. وهي المسافة التي يخترعها العقل لتكون فاصلة بين الشيء كما يُرى والشيء كما يُتخيل. يحضر الشيء كما يمكن أن يكون وهو في حالة نشوة قصوى لا كما تفرضه صورته. ما يرسمه المليحي من أشكال هو وعد قدري منجز أكثر مما هو صورة، يمكن الشك بواقعيتها. لذلك تحضر أشكاله جاهزة، لا لتتحقق من وجودها، بل لتهب وجودها ذلك المعنى الذي يتسلل مباشرة إلى الروح، كما تفعل الكلمات بالقصيدة. رسوم لا يمكنها إلا أن تكون ما هي عليه مثل نبرة مقدسة، لا تقبل الخطأ. لن يكون مناسباً للحظة تجل من هذا النوع أن يفكر المشاهد بما هو محذوف من الأشكال لكي تصل إلى ما هي عليه من نعمة متقشفة وترف زاهد.
لوحة محمد المليحي هي مجموعة أسرار. أسرار غير متشظية بل وعاكفة على ذاتها بحنان وصرامة. لذلك لا يكفي ان نحتكم الى النظر في مواجهتها. هناك بالتاكيد الكثير مما يمكن أن يرى منها وفيها. وما يمكن أن يكون مدهشاً من جهة استعداده لأن يكون موجهاً للذائذ بصرية لا تحصى. لكنّ تلك العلاقة لا تكفي للتعبير عما يحدث للمرء وهو يقف في مواجهة عالم، تقوم فلسفة وجوده على الصفاء الذاهب إلى حافاته. «تخيل لو كنت غريقاً» لا يتعلق الأمر بالبصر وحده. هناك حواس أخرى لا يمكنها إلا أن تساهم في ذلك الاضطراب العظيم. ربما يكون ولع المليحي بالمكان في صفته خلاصة لوعد إنساني كامن هو مصدر كل الهلع الذي تعيشه الحواس وهي تسعى إلى اقتناص تجليات حساسيتها النافرة. لن يكون النظر في هذه الحالة إلا الخطوة الأولى التي لا يمكن استعادتها، بل أن استعادتها هي نوع من الشقاء الذي يمكن تأجيله. ولكن ليس في رسوم المليحي شيء يوحي بفكرة «ما بعد». ذلك لأن السر الذي نحاول استدراجه سيتمكن منا، سيضمنا إلى حاشيته. سيقف بنا عند الحافة التي لن تكون العودة منها ممكنة. سيكون علينا أن نمتزج بمصيرنا الذي يظهر لنا على شكل خلاصة بصرية مقتضبة. المكان الذي تغير لدى المليحي (صار الجسد هو العبارة وليس البحر) يلهمنا نسيان ما كنا نسعى إلى الوصول إليه. منذ اللحظة الأولى يشعر المرء أنه صار رهينة لجمالية يمكنها أن تصنع لارتباكه معنى.
الأنثى تحيط بنا. لنقل أنها تتسع لتشمل طبيعة يتجلى سحرها من خلال جسد استثنائي. هو الجسد الذي يخترعه الساحر. يقترح الرسام فضاء انثوياً يحيطنا بليونته الغامضة وتماهيه مع شهوته. جغرافيا جديدة تصنع لمعاناً لخطى ساحرات غادرن للتو إلى مناطق غيابهن. يمد الرسام يده ليلمس، غير أنه لا يرسم إلا من أجل أن يمحو لمسته تلك. لا ينصت لشهادة يده التي تغمرها الشهوة بل يؤلف من تأوهات تلك اليد النغم الذي يحلق به بعيداً. إنه يرى. إلا يكفي ذلك سبباً لسعادة الرسام؟ غير أن المليحي لا يقتنع إلا بالتنقيب عن أسباب الرسم وهي عينها أسباب الأنثى هذه المرة مثلما كانت أسباب البحر في ما مضى. قضية شائكة من هذا النوع تجعل الجمال كله موضع مساءلة. وهو ما يسعى المليحي إلى الظفر به. الأنثى موجودة كما البحر الذي هو الآخر موجود، ولكن ألا يعني ذلك أن التماهي معهما هو في حقيقته نوع من الغرق؟ لست متاكداً من معنى بعينه. فالرسوم التي لا تقول شيئاً هي في حقيقتها تقول كل شيء في لحظة إلهام بصري. تحيطنا الأنثى مثلما كان يفعل البحر، وفي الحالين فإن الصورة تكاد تكون غائبة. هناك ما نفكر بحضوره لكننا نعيش طقسه كما لو أنه موجود تماماً. قبلنا وبعدنا سيكون موجوداً بهيئته المقترحة. ولكن ما ينبغي أن نحذره في حالة محمد المليحي أن نلجأ إلى الترميز. ذلك لأن الرسام لا يهبنا رموزاً بل خلاصات. يده التي تمحو تستخرج من عروقها مشاهد حياة كاملة. إنها تقول ما عاشته بكلمات تكاد لا تسمع من شدة رقتها وعذوبتها وكمالها. محمد المليحي هو رسام مشاهد تعاش مرة واحدة غير أنها تذهب إلى الأبد مثل فكرة خالدة.



مقالات اخرى لــ  فاروق يوسف

 

copyright © 2008  Al ZaQurA.com, Inc. All rights reserved 

 

 

Developed by
ENANA.COM