... ارسل الى صديق  ... نسخة للطباعه ...اضف الى المفضله Bookmark and Share

 

نقد

 

 

 

 
 
   
معرض استعادي حول المرأة أماً وحبيبة ... «نسوة»

مها سلطان

تاريخ النشر       31/03/2008 06:00 AM



اسمه بوغوس بالأرمنية وباللاتينية بول. من عائلة هاجرت من أرمينيا إلى القدس ثم إلى بيروت. ومن حي فقير في برج حمّود بدأت حكاية الفنان بول غيراغوسيان (1926-1993) تشق مسارها في الحياة الفنية وتحقق صعودها طوال أكثر من أربعة عقود من الزمن، حتى أمسى واحداً من ابرز فناني الحداثة في لبنان وأكثرهم شهرة وذيوعاً.


عبثاً نبحث عن أسرار تعلقنا بهذا الفنان. هل لأنه يخاطب الإنسان الذي فينا، أم لأنه عشق المرأة إلى حد لم يغب شعاع نورها عن لوحاته. والمعرض الذي يقام لغاية منتصف نيسان (أبريل)، في عنوان «مملكة الأمومة» في غاليري ايماغوس، يجعلنا نستذكر قاماته ونساءه وموضوعاته. نفتح أبواب المخيلة ونجد النسوة داخل غرفهن جالسات أو واقفات، شقيقات وصديقات، أمهات مع أطفال وأحداث ومراهقين، ليس العائلة فحسب بل الجيران وأهل الحي. ونرى النسوة يتحلقن في دائرة، فإذا بنا نسمع صراخ طفل جاء للتو إلى الحياة. يأخذنا الحنين والاستسلام لنشوة التأمل في أطياف نساء في غدوهن ورواحهن. ويبقى المكان حيث هو والزمن في أوج شبابه والريشة في أقصى اندفاعاتها والألوان حارة والعاطفة جياشة كما لم نعهدها من قبل. عالم داخلي لا تعرف أغواره إلا ريشة فنان وقف دوماً إلى جانب الإنسان فاعتبره محوراً للكون. استنبط من الواقع المعاش موضوعاته، صوّر البؤس والجوع وذاكرة أهوال الحرب والمجازر، واكب الناس في أفراحهم وأتراحهم، وكان كلما هبط إلى قاع المجتمع وجد الحقائق الكبرى ترتسم أمام ناظريه. جمع في أسلوبه بين الغنائية والدرامية المأسوية، غير أن احتفالية الحياة العائلية وبهجتها ومشاهد الجماعة طغت على كل ما عداها.
رسم المرأة حلماً مفقوداً، رأى من خلالها الطبيعة وجمال البحار والحب والغيرة والولادة والموت والبراءة والطفولة والسلام.خمسون لوحة منتقاة من غزارة عمر فنان موصوف بالبراعة والسرعة المتناهية. لوحات من مراحل مختلفة تعود إلى أعوام (1951- 1993). تعكس البدايات انحيازاً الى التشخيص مع الاختزال والتبسيط، فتظهر للعيان موضوعات لشخصيات شعبية كالحمّال وزوجته، والنسوة العاملات في أحياء بيروت، ثم في رحلة الشكل نحو الذاكرة الايقونوغرافية الدينية، يبدو وجه الأم مع رضيعها بأسلوب يذكّر بأيقونة العذراء والطفل، وفي اقترابه من الواقع الحياتي، تبدأ لوحات الأمومة لتستوحي وجه زوجته جولييت وابنه البكر ايمانويل، ثم توسعت صورة العائلة وأخذ يدخل الى مسرح اللوحة الابن الثاني ثم الثالث والرابع. كبرت العائلة وازدحمت اللوحات بالقامات والوجوه. لكأن مراحله شبيهة بفصول حياته وهو يخاطب في آن واحد ضمير الجماعة. إنها ليست مجرد موضوعات عابرة بل تحمل رؤى حقيقية نابعة من المعايشة والملاحظة الدقيقة، كغيرة الأولاد من أخيهم الرضيع الذي يستأثر بحضن أمه. هذا الحضن الدافئ الذي ظل يشتاقه بول غيراغوسيان طوال حياته لفرط ما عانى من الحرمان في طفولته البائسة في الدير، حيث كان يتشوق لرؤية أمه «راحيل» التي كانت تعمل في بيوت الأثرياء لكسب العيش. هكذا ظل وجهها يراوده كصورة لا تمحى من ذاكرته، بعدما أضحت رمزاً لكل أم، بل لكل حنان مفقود. لذا غابت الملامح وظل النور مرتسماً على محيّا الأم - ملاك الرحمة وقلب الرجاء، الأم التي تنعقد على صفحة وجهها النورانية كل الابتهالات وبين قوس يديها ترفرف أجنحة الطفولة.
ظلال الأمومة


ذلك البحث عن ظلال الأمومة وجد في فن بول غيراغوسيان رحابته في تشكيل تآليف كتلوية شبيهة بموضوع العذراء والطفل يسوع والقديس يوحنا، في استحضار للذاكرة النهضوية الدينية. ومن بين أعماله تجذبنا العروس بثوبها الأبيض الملائكي جالسة وفي حضنها باقة زهور، ويخيم الصمت بأنواره المخضبة بخصلات الشمس على الأم التي تحضن وليدها، فتحضرنا تموضعات العذراء في منحوتة «البييتا»، كما نجد ان الفنان قد دمج بين جمود الجلسة وأبديتها على النحو الذي يتجسد في تماثيل قدماء المصريين. انتبه بول إلى أهمية الحداثة الكامنة في جذوره الشرقية، فنهل من الأيقونة البيزنطية والمنمنمات الإسلامية والسريانية والبعد التزييني في الفنون اليابانية، لا سيما في كيفية معالجة مناظر الحشود، وتأثر بطريقة التصوير الجداري الفرعوني، فاستلهم منها طريقة وقوف الأشخاص والتنوع المنظوري المتعدد الزوايا والتركيز على حركات الأرجل.
فالتموضع في فن بول غيراغوسيان ينقسم بين الجلوس حيث تتركز الأهمية على حركة يدي الأم وقامتها وغطاء رأسها الذي يلف اللوحة في تأليف دائري محوري، والوقوف حيث تتداخل الكتل بعضها في بعض تداخل الجماعة. تظهر الكتلة المتراصة للناس الواقفين في حال ازدحام وارتقاب للمجهول. ما من فراغ يفصل بينهم، وما من مكان لأحد كي يضع رجله على الأرض، وما من صوت يعلو على شهقات اللون. وتبرز في الموضوع حركات الأرجل. الأرجل الكبيرة الضخمة والمتعبة، التي كان يتأملها بول حين كان يرسم في أوائل الخمسينات موضوع الحمّالين في برج حمّود.
إن الفورية في فن بول غيراغوسيان لم تأت إلا من بعد الروية. كما أن قوة التلطيخ اللوني وكثافة الاندفاعات العفوية ما هي إلا حصيلة مراس طويل مكّنه من الاختصار في تجسيد الحركة من خلال الألوان في تناغمها وتناقضها، الألوان المفترسة التي تمكن طوال أربعة عقود من ترويضها. هكذا انتقل الفنان من التشخيص إلى التجريد ومن التأمل إلى التلقائية ومن التقشف اللوني إلى التعجين مشغوفاً بالتصوير مباشرة من الأنبوب الذي كان يقصه ليس من الفوهة بل من الأسفل، تحقيقاً للسرعة في التعبير، كي يندفع اللون بسخاء أكبر وهو يلفح الأجساد بنار البقع واللطخات، بقبضة اليد وحدسها وقوة عزيمتها.
إذ بعدما فقد الفنان رِجله, بات عصب يده أقوى وأشرس، وتراجع العمق وباتت الصورة من سطح واحد، نسج عليه بول باللمسات الطولية قامات نساء مثل حدائق من ربيع الفصول وأناشيد الأرض، فلوّن الفساتين بالأرجوان وزخرف الأقمشة ونسج للوقت عباءات من همس وأهازيج.
لوحات نعرفها كأننا نراها للمرة الأولى، لكنّ الجديد في هذا المعرض هو مجموعة رسوم بالحبر الصيني مرسومة على ورق الهدايا ذي اللون الأسمر، وتحوي تخطيطات ارتجالية هائلة الاندفاع بارعة التآليف، تمــثل في حركاتها اللولبية والمكوكية جلوس الأم وهي تحمل طفلـــها تربّــت له تهــدهــده وترفـــعه ثم تضــعه على صدرها تغني له كي ينـــام ثم ينغمـــران معاً ويذوبان في غيمة من نور.



مقالات اخرى لــ  مها سلطان

 

copyright © 2008  Al ZaQurA.com, Inc. All rights reserved 

 

 

Developed by
ENANA.COM